شارع الثورة
على جنبات ذاك الشارع المُغْبَرّ كانت لنا ذكريات مع الساسة والسياسة ، ما أشبه السنوات الطويلة بالسويعات حينما تمر فلا يتبقى لها من الأثر إلا رسوماً بالية ، لكنها منقوشة في الذاكرة بقوة الحديد والنار. كنت أمر من شارعنا عشر مرات في اليوم والليلة ، أسلم على مبروك صاحب الدكان ، كان شاباً يافعاً لطيفاً ، يأكلك بحلاوة لسانه ، فلا تخرج من الدكان إلا مشترياً ، وكان يوزع الابتسامة على المارين من الشارع بالمجان ، كان دكانه صغيراً لكن قلبه يسع الملايين ، سبحان الله كان مبروك إسماً على مسمى ، كان على قلة السويعات التي يقضيها في الدكان بحكم دراسته ، تجده يملأ المكان حباً وحبوراً، وحينما يغيب تتربع الوحشة على الدكان، فلا تجد ذاك النور الذي يشع من المكان ، كنت أدخل عليه في الدكان فأجده روحاً مرحة تملأ المكان ، أتجاذب معه أطراف الحديث فأجده سيلاً من المعلومات يتدفق في هدوء نحوي لكن كنت لا أستطيع أن أجاريه في الحديث مخافة تلك العيون التي كانت ترمقني في كل لحظة ، فكان يفهم مني ذلك بذكائه المعهود ، فكنت أشتري ما أريد أن أشتريه ثم ألوي عائداً حيث أسكن مخافة تلك العيون .
مبروك حال بيني وبينه الغبار في ليلة الثلاثاء من شهر فبراير ، مبروك ضاع في زحمة الثورة والثوار فلا أعرف مصيره أحي يرزق أم ميت دهسته آلة الحرب الطاحنة ، في تلك الليلة علا في شارعنا غبار كثيف وكأنه إعصار، يقتلع الرمال من مواطنها ويزرعها ناراً تحرق الأخضر واليابس ، في تلك الليلة وتلتها ليال عديدة هجرنا مضاجعنا ، وتسمرنا أمام شاشة التلفزيون نتفرج على شارعنا وقد تناقلت أخباره قنوات الدنيا كلها ، وحيث ندير وجوهنا نسمع أصداء شارعنا تتردد على شبكات الأخبار ، وفي لحظات أحسسنا أن الساعة قائمة وماهي بقائمة ، فكنت أتفحص وجوه الناس ، فأقرأ الكثير في عيونهم بل كنت أسمع الصراخ في عقولهم ، كانوا يهتفون بسقوط النظام ، وكنت انخرط معهم في الصراخ بوعي أو بدون وعي ، بصراحة مرت لحظات لن أستطيع أن أصوغها في كلمات ، كانت قلوب الناس تبكي من فداحة ردة الفعل لصاحبنا المجنون ، فلا حدسه ولا سياسته استطاعت أن تستوعب ما حصل فكان الشعب يُدك تحت الأرض بلا شفقة ولا رحمة ، وكان أديم الأرض تتعالى صيحاته من جرائم لا قِبَلَ له بها ، ولا يملك هذا الأديم مهما علا صراخه إلا أن يواري سوءات شباب أقسموا أن يدخلوا شارعنا فاتحين ، ولا أخفيكم قولاً في هذه الظروف كنت لا أحمل همّاً أكبر من أن أكفكف دموع ثكالى ويتامى أصابتهم نيران العدو ، وأن أعود في أقرب فرصة إلى وطني ، فلقد طال سهر أهلي وعيونهم مشدودة إلى قنوات الأخبار وهم الذين كانوا لا يعرفون من الأخبار إلا إسمها .
مبروك حالة واحدة من ضمن آلاف الحالات التي سيتولى الزمن في الكشف عنها ، وستصبح تاريخاً يدرس للأجيال القادمة ، هذه الحالات لاشك أنها تروي دروساً في التضحية والفداء في أحلى صورها، كيف لا وهم فتية جَدّهم الأول كان آية الجهاد وعنوانه في دحر جحافل الاستعمار البغيض .
مبروك تحول إلى أسطورة ورمز للشباب الباحثين عن المثل الأعلى في كل شيء ، فقد كان نجماً ساطعاً لا يتكبر شعاعه في النزول إلى الناس لينير لهم حلكة دروب السير في سبيل تحقيق حلم الثورة وشارعها .
وإلى قصة اخرى بإذن الله و
ورحمة الله وبركاته
بقلم رشيد عانين القصة حقيقية