الأدوار الاجتماعية
1 ـ الاجتماع يتجزأ إلى رتب اجتماعية، كل فرد في درجة خاصة منها.
2 ـ والإنسان في درجته الاجتماعية، له مكانة خاصه به، وتسمى بالمكانة الاجتماعية، والفرق بينهما بالعموم المطلق فكل مكانة اجتماعية لابد وأن تكون تحت درجة اجتماعية خاصة، وليس كل درجة تلازم المكانة.
3 ـ ثم الفرد يقوم بدور اجتماعي، حسب مكانته ـ غالباً ـ وذلك الدور ينقسم إلى: أ ـ دور محوّل إليه. ب ـ ودور هو يقوم به خارج ما حول إليه.
4 ـ ثم للإنسان تحرك اجتماعي في رتبته ومكانته: أ ـ أحياناً أفقياً. ب ـ وأحياناً عمودياً.
5 ـ وأخيراً يأتي دور تأثير الأمور السابقة في حياة الإنسان الفردية، والاجتماعية:
أ ـ الاجتماع الخاص به، كما إذا كان عضواً في جماعة.
ب ـ والاجتماع العام، أي المجتمع، وقبل ذكر تفاصيل هذه الأمور نذكر قطعة من كلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، حول الرتب الاجتماعية:
قال عليه السلام: (واعلم أن الرعية طبقات، لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غني ببعضها عن بعض، فمنها جنود الله، ومنها كتاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة.
وكل قــد سمى الله له سهــمه، ووضــع على حـــده فريضة في كتابه أو سنة نبيه صلى الله عليه وآله عهداً منه عندنا محفوظاً)(1).
أقول: لعل المراد بالسهم نصيبه وحقه، وبالفريضة واجبه الذي يجب عليه أن يأتي به، فإن الحق في قبال الواجب.
أما تفاصيل البنود التي ذكرناها في البدء فهي كالتالي:
مقياس الرتب الاجتماعية
(الأول) الرتبة الاجتماعية، عبارة عن مثل رتبة العلماء، ورتبة المعلمين، ورتبة الخطباء، ورتبة التجار، ورتبة الجنود، ورتبة العمال، ورتبة الفلاحين، وما أشبه ذلك فكل جماعة لهم تمايز عن جماعة أخرى، تسمى رتبة، وهناك أقوال أخر لعلماء الاجتماع في وجه تمايز رتبة من رتبة:
أ ـ فالشيوعيون ذهبوا إلى أن تمايز معيار الرتب مالكية وسائل الإنتاج والقدرة الناشئة من ذلك، وعليه فالاجتماع رتبتان أساسيتان الملاك وغيرهم والأولون ينقسمون إلى كبار الملاك وصغارهم.
وفيه: أنهم إن أرادوا صرف الاصطلاح فلا مشاحة فيه، فهو مثل أن نقسم الناس إلى رتبة الرجال، ورتبة النساء، ورتبة الخناثى، وإن أرادوا الواقع فقد ثبت في العلم بطلان النظرية القائلة بأن الاقتصاد هو البناء التحتي للمجتمع… ثم على فرض تسليم أنه البناء التحتي، فأي ربط بين ذلك وبين انقسام رتب الاجتماع بالنسبة إلى ذلك.
ب ـ وذهب آخرون إلى أن التمايز ينشأ من تصور كل جماعة لأنفسهم ميزة خاصة، مثل أن من تصور أنه من الأشراف حشر معهم، ومن تصور نفسه من العلماء حشر معهم، وهكذا، وإن لم يكن في الواقع من أولئك.
وفيه: أن الأمر واقعي لا تصوري، فحشر غير العالم نفسه مع العالم لا يجعله من رتبة العلماء، كما أن حشر العالم نفسه مع الجنود ـ مثلاً ـ لا يجعله من رتبة الجنود.
ج ـ وذهب ثالث إلى أن المعيار في الرتبة الشغل، وفيه: إنه في الجملة وإن كان صحيحاً، إلا أن الشغل يعطي التصنيف لا الرتب، فالتجار رتبة واحدة وإن كان شغل جماعة منهم التجارة في الأراضي، وآخرين التجارة في الأسهم والسندات، وثالث التجارة في مواد الإنشاء، وهكذا بالنسبة إلى أصناف سائر الرتب.
د ـ ومن ذلك ظهر بطلان قول القائل أن منشأ الرتب، مقدار الدخل ومصدره أو محل السكونة ونحو ذلك، فإنه وإن كان صحيحاً أن جماعة يسكنون محلاً خاصاً، ينضم بعضهم إلى بعض في كثير من الشؤون، كما أنه وإن كان صحيحاً أن المتساوين في الدخل لهم أحكام جامعة، مثل كون عيشهم شبه متساو، ونحو ذلك.
إلا أن أمثال هذه الأمور لا توجب تسمية الأفراد الذين هم تحت أمثال هذه الكليات رتبة، إلا إذا أريد الاصطلاح المجرد، فإن الرتبة الاجتماعية حقيقة اجتماعية، وهي كما ذكرناه في أول البحث، ولذا لا يقال: الرتبة الساكنة في محلة كذا، ولا الرتبة الذين يملك كل أحد منهم مأة ألف، إلى غير ذلك.
مظاهر اختلاف الرتب
ثم إن اختلاف الرتب الاجتماعية يتجلى في أمرين:
1 ـ الثقافة، فإنه وإن كان لكل اجتماع لون خاص من الثقافة، يميز ذلك الاجتماع عن الاجتماعات الأخر، مثلاً: لون الثقافة الإسلامية غير لون الثقافة المسيحية، وكلاهما يمتازان عن الثقافة اليهودية، إلا أن في المجتمع الإسلامي [ثقافة رتبة المعلم تختلف عن ثقافة رتبة العالم الديني] و [كلاهما يختلفان في الثقافة عن ثقافة التاجر] وهكذا.
ومصدر هذه الثقافة الخاصة، أن كل رتبة بحكم مصدرها وموردها، تمتص عن الاجتماع لوناً خاصاً من الثقافة يلائم مسيرها ومصيرها.
وإن شئت قلت: إنما تأخذ من فنون الثقافة المبعثرة في الاجتماع ما يلائم دورها في الأداء، فالجنود يأخذون من الثقافة ما يساعدهم في حفظ المدن، والغلبة على الأعداء عند الحرب، بينما التجار يأخذون من الثقافة ما يساعدهم على جلب البضائع وإنتاجها وحفظها وتسويقها وتوزيعها، إلى غير ذلك من ثقافات الرتب المختلفة.
مناقشة في نظرية (المساواة)
1 ـ وتبعاً لهذه الثقافة، والمسير والمصير الخاص، فإن كل فرد رتبة يأوي إلى أفراد رتبته في لون الحياة، من لباس خاص، كألبسة العلماء، والجنود وغيرهم، وكيفية خاصة في المأكل والمشرب، ولحن خاص في الكلام، وكيفية خاصة في المسكن، وغير ذلك، ولا يراد بهذا الامتياز الكامل، بل الخصوصيات المتفرقة والمزايا المبعثرة.
وقد يزعم ذلك بعض الناس، أن اللازم [التسوية الاجتماعية] في كل شيء، وقد عمل [بهلوي وأتاتورك، وياسين، وماو] وأضرابهم على توحيد الملابس، بل والمأكل وما أشبه ـ وجاء آخر فزعم أن المجتمع الإسلامي [مجتمع غير متفاوت] ونسبوه إلى أنه مقتضى [التوحيد] فمادام الرب واحداً، والناس سواسية كأسنان المشط، كان اللازم ذلك.
وفيه (أولاً): الحياة خلقت ملونة بملايين الألوان، فلماذا يشذ الإنسان عن ذلك؟
و(ثانياً): الإنسان خلق مختلف الأجسام والصفات، فمن الأفضل أن يعمل كل حسب ما يشتهي في [إطار الإسلام] عند المسلم، وفي [إطار الإنسان] عند غير المسلم.
فكما أن من يرى لزوم تساوي الذكي والغبي، أو تساوي كل ما في الكون بأن يكون كل الأشياء ماءاً، أو فاكهة رمان، أو جميلاً، أو تساوي أفراد الإنسان في الذكورة والأنوثة، أو… لا يدعم زعمه دليل، بل الدليل على خلافه [أولاً] لماذا التساوي؟ و[ثانياً] أليس المتفاوت أجمل؟ وفي نفس الوقت إعطاء لكل مهية متطلبة طلبها.
كذلك من يرى تساوي الملابس، أو سائر شؤن الحياة، وحتى التساوي في المال خلاف العدل، وقد ذكرنا في [الفقه ـ الاقتصاد] أن المال بازاء:
1 ـ العمل الجسدي.
2 ـ الفكري.
3 ـ المواد الأولية.
4 ـ شرائط الزمان والمكان.
5 ـ العلائق الاجتماعية.
ولا يخفى أنه ليس معنى ذلك الابتعاد في الرتب بعضهم عن بعض، بل معناه:
أ ـ حرية كل إنسان أن يعمل ما يشاء، في إطار الإسلام ـ وعند غير المسلم في إطار الإنسان ـ.
ب ـ إن من الطبيعي أن كل رتبة بحكم عملها وثقافتها الخاصة بطبقتها، لها مزايا، فلا داعي إلى تحطيم تلك المزايا، بل ربما أوجب التحطيم خللاً.
مثلاً: شرطة المرور لابد لهم من شارة خاصة، وإلا لم يقعوا في موضع انقياد الجماهير لهم مما يسبب عطباً في السير… والرياضي لابد له وأن يلبس ملابس خاصة تمكنه من أعمال الرياضة، كما أن مأكل الزراع والعمال بحاجة إلى خشونة أكثر من مأكل من لا يحرك عضلاته، كالطبيب والمهندس، إلى غير ذلك من الأمثلة.
ج ـ أما ما عدا ذلك، كأن تسكن كل رتبة محلاً خاصاً بها، أو لا يزاوج بعضهم بعضاً، أو يكون امتياز في المدرسة، والفندق، والمطعم، والسيارة، وما أشبه، فذلك غير صحيح.
وعليه، فاللازم أن توطّر الحياة في [إطار الحرية والكفاءةٍ وهذا هو الذي قرر الإسلام تبعاً لفطرة الإنسان ـ فإن التشريع صدر، من الذي صنع الكون.
قال سبحانه: (يضع عنهم إصرهم * والأغلال التي كانت عليهم)(2).
وقال تعالى: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)(3) ومن المعلوم أن التقوى عبارة أخرى عن [الكفاءة].
مزايا الرتبة الاجتماعية
ثم إن الرتبة لها مزايا هي: أ ـ السعة. ب ـ الدوام. ج ـ التعارض.
أ ـ أما السعة فهي عبارة عن أن الرتبة لا تحد بالحدود القومية، واللغوية والجغرافية، والمذهبية ـ إلا في أطر أخرى، أي أن علماء أي مذهب يختلفون في اللون المذهبي عن علماء المذهب الآخر، وكذلك حال الجنود وغيرهم، وكذلك بالنسبة إلى الجغرافيات والقوميات المختلفة، وإلى آخره ـ فالعلماء مثلاً، أو الجنود ، أو الزراع، متساوو المزايا، وإن اختلفت قومياتهم ولغاتهم ومناطقهم ومذاهبهم.
ب ـ وأما الدوام، فلأن الرتبة إنما تتولد تحت موازين خاصة، نفسية واجتماعية ونحوهما، وحيث أن تلك الموازين ليست سريعة النمو، كما ليست سريعة الزوال، فالرتبة تبقى مستمرة، نعم أحياناً تتطور حسب تطور الآلة مثلاً: رتبة [المكارين] تطورت إلى رتبة السواق والطيارين، بينما رتبة الملاحين بقيت على حالتها السابقة، وإن تطورت السفن من الشراعية إلى البخارية.
وكذلك رتبة العمال تطورت من العمل اليدوي إلى العمل في المعامل، أما أصل الرتبة فقد بقيت… وفي الاتحاد السوفياتي ـ مثلاً ـ تطورت رتبة علماء الدين والدنيا، إلى رتبة علماء الدنيا، فإن أفراد الحزب هم المبشرون بمبادئ ماركس الدنيوية، بينما علماء المسلمين ـ مثلاً في الجمهوريات الست المحتلة ـ كانوا علماء دين دنيا، وإلى غير ذلك.
ج ـ وأما التعارض فلأن الرتبة حيث تحتوي على أفراد تتزاحم مصالحهم لابد وأن يقع بينهم التعارض، إذ النفسيات مختلفة، والمصالح قليلة، لا تكفى الكل، ولذا يريد كل دفع الأضرار عن نفسه، واكتساب أكبر قدر من المزايا. وهذه الحالة النابعة من [ذات الإنسان، وقلة المصالح] وإن كانت تأخذ في كثير من الأحيان صورة حادة، إلا أن الإسلام خففها.
أولاً ـ بتنظيف الضمائر.
وثانياً ـ بجعل التنافر إيجابياً، بدل أن يكون في السلب.
ولا يخفى أن حالة التعارض، وإن كانت بين أفراد الرتبة أجلى لاحتكاك المصالح فيها أكثر من الأفراد المبعثرين الذين لا مصالح مشتركة لهم، إلا أن تلك الحالة توجد أيضاً بين الرتب المختلفة إذا احتكت مصالحهم.
ثم إنه كلما كانت الرتبة أقرب إلى الإيمان [أو إلى التعقل] كان التعارض فيها أقل، إلى أن يصل إلى شيء لا يكاد يذكر.
المكانة الاجتماعية
(الثاني) المكانة الاجتماعية، فإن الإنسان في رتبته الاجتماعية له مكانة خاصة، إذ لا يتساوى أفراد الرتبة الواحدة، مثلاً: في رتبة رجال العلم، قد يكون الإنسان، ذا مكانة اجتماعية لكونه خطيباً، أو مدرساً، أو مرجعاً، أو مبتدءاً، وهذه المكانة إنما هي بالنسبة إلى سائر أفراد الرتبة، وإن كانت النسبة، مع سائر الرتب أنه رجل دين، في قبال أنه تاجر أو جندي.
وذلك لأن أفراد الرتبة ذو درجات، فإن القيمة إنما تظهر بالمقارنة، وإن كان الإطار العام شاملاً للكل، مثلاً: كون هذا تاجراً من الدرجة الأولى أو الثانية، أو الثالثة، إنما يعرف بالمقايسة إلى التجارة أما بالمقايسة إلى المعلمين أو الفلاحين، فلا درجة، وإنما يلاحظ الإطار العام في قبال الإطار العام.
القيمة الاجتماعية
ومن المكانة الاجتماعية تظهر القيمة الاجتماعية، وكما أن في المواد تكون القيمة حسب الأمور الخمسة [العمل الفكري، والجسدي و…] كذلك القيمة الاجتماعية تكون حسب الفائدة، سواء كانت الفائدة مادية كالإنتاج المادي، أو معنوية، كما إذا كان الشخص ينتج إنتاجاً معنوياً، مثل مدرس الأخلاق، ومعلم الفضيلة.
وحيث أن القيمة كانت بذلك جرت القيمة بين الرتب، وبين أفراد رتبة ورتبة، مثلاً: القيمة الاجتماعية للفلاحين أكثر من القيمة الاجتماعية للفحامين وبهذه المناسبة القيمة الاجتماعية لفلاح أكثر من القيمة الاجتماعية لفحام.
ثم إنه من الممكن أن يكون شخص داخلاً في رتبتين اجتماعيتين، أو أكثر، كأن يكون مهندساً وطبيباً، وحينئذ يمكن أن تكون مكانته الاجتماعية في إحداهما أرفع من مكانته الاجتماعية في الأخرى، مثلاً: كان في الرعيل الأول من الأطباء، بينما كانت مكانته الاجتماعية الهندسية في آخر سلم المهندسين.
ثم إن المكانة الاجتماعية تصاحب دائماً:
1 ـ الوجاهة الاجتماعية.
2 ـ والنفوذ الاجتماعي.
فالوجاهة إنما تحصل من الاحترام الذي يتلقاه الفرد من المجتمع، بسبب ما يحيط بمكانته من الملابسات التي توجب الاحترام، أو لا توجبه، إذ ربما يكون لإنسان مكانة رفيعة، لكن حيث لا يحفظ بنفسه شروط تلك المكانة، لا تكون له تلك الوجاهة اللائقة بتلك المكانة، وربما كان بالعكس بأن تكون الوجاهة أكثر من المكانة.
وهذان اللفظان يطلقان باعتبارين، كالشجرة لها [جذور] ولها [غصون] فالمكانة بمنزلة الأولى، والوجاهة بمنزلة الثانية…
أما النفوذ الاجتماعي، فهو قدر امتداد قدرة الإنسان في المجتمع، ويأتي دور النفوذ الاجتماعي، بعد دور الوجاهة، والتي هي تأتي بعد دور المكانة، والنفوذ يحتاج إلى شرائط، فقد تكون الوجاهة بحيث تقتضي النفوذ الكذائي لكن صاحبها حيث لا يقوم بشروط النفوذ، ليس له ذلك النفوذ المطلوب، وقد يكون الأمر بالعكس.
المكانة الطبيعية والمكانة المكتسبة
ثم إن المكانة الاجتماعية، والتي تجعل الإنسان ـ من قبل الاجتماع ـ في مكانة خاصة، قد يقتنع بها الإنسان، فلا يبرحها، وإنما يلازم تلك المكانة بدون زيادة أو نقيصة، وقد يتعداها الإنسان إلى مكانة أخرى بالإضافة إلى الأولى، كما إذا كان خطيب، يستعد لقضاء حوائج الناس، أو طبيب يساعد الفقراء ويفحصهم مجاناً، فإنهما قد يرفعان مكانة الخطيب والطبيب، إلى مكانة أخرى.
وعلماء الاجتماع يسمون الأولى [بالمكانة الطبيعية] والثانية [بالمكانة المكتسبة].
ثم إن المكانة الاجتماعية لفرد في رتبة ليست شيئاً ثابتاً في كل الأمم، فق تكون المكانة في أمة دون أمة، مثلاً: للسحرة مكانة في الجهال ليست لهم مثلها في المثقفين، نعم اصل القيم شيء حقيقي، كالحسن والقبح العقليين، فليستا من الأمور الاعتبارية، تختلف باختلاف الاعتبار، وهي تتكون باعتبار الفائدة الحقيقية، لا باعتبار الوهم والزيف.
الدور الاجتماعي
(الثالث) والدور الاجتماعي، هو ما يقوم به الفرد في مجتمعه الكبير، أو في جماعته التي هو عضو فيها، والغالب أن يقوم الفرد بجملة أدوار، سواء كان عضواً في جماعة، أو في جماعات، أو ليس عضواً في جماعة، وإنما يكون فرداً من الاجتماع.
وذلك لأن الإنسان مربوط بعدة أشكال اجتماعية، يقوم في كل شكل منها بدور، فالإنسان مربوط ببلد، وبمنطقة، وبحزب، وبعائلة، وبصنف، وهكذا، وكل واحد من تلك يتطلب منه القيام بدور، وربما صار وكيلاً أو وصياً عن آخر فيقوم بدوره أيضاً، وهذه الأدوار، إن جمعت جميعاً، سميت [بالدور].
وحيث أن الإنسان غالباً تقدمي، ويريد مزيد المنفعة المادية، أو المعنوية، لا يقتنع بالقيام بالدور المخول غليه، بل يقوم بما يزيد على واجبه، ولذا كان للإنسان:
1 ـ دور مخول إليه.
2 ـ ودور اكتسبه بنفسه.
ثم إن المجتمعات البدائية، تكون الأدوار فيها قليلة، بينما كلما تقدم المجتمع تعقد وكانت الأدوار فيه كثيرة، وكلما كثرت أدوار المجتمع، يكون للفرد أدوار متعددة، فالمجتمع الذي لا جمعيات فيه، أو لا أحزاب، لا يكون للفرد مثل هذين الدورين، وكلما كثرت الجمعيات، أمكن كثرة أدوار الفرد، مثلاً: يكون عضواً في جمعية خيرية، وفي جمعية الأطباء ـ إذا كان طبيباً ـ وفي الجمعية الثقافية المرتبطة بالحزب الفلاني، وفي جمعية تجارية، وهكذا.
وربما تعارض دورا الإنسان، فيقدم أهمهما، كما إذا كثرت أشغاله الحزبية قل دوره في إدارة عائلته، وكذلك إذا كانت هوايته إدارة جمعية خيرية يقلل من دوره في الجمعية الثقافية التي هو عضو فيها.
انتخاب الدور الأفضل
ثم إن الدور الأفضل الذي يمكن أن يقوم به الإنسان، وعرفانه أي الأدوار الموكولة إليه، اجتماعياً أو إمكانياً، أفضل من غيره بحاجة إلى حسن الانتخاب وحسن الانتخاب ليس بالشيء الهيّن، فإنه بعد الاحتياج إلى الكفاءات الذاتية والكفاءات المنمية، يحتاج إلى دقة تأمل، وكثرة تفكر، ليميز الأرجح من غيره.
كما أن إنماء الكفاءات بيد الإنسان غالباً، إذا لم تكن الإمكانات الطبيعية أو الاجتماعية عائقة دون الإنماء، مثلاً: الفرد الهندي له ربع إمكانية الفرد الأمريكي في تحصيل العلم والمعرفة، فمن كل أربعة أولاد يوجد ولد واحد له إمكانية التحصيل في الهند، بينما كل الأربعة لهم إمكانية التعليم في أمريكا.
فإذا فرض وجود الكفاءة الذاتية ـ كأن لم يكن بليداً، ولا مريضاً ـ ووجود الكفاءة الاجتماعية، يأتي دور حسن الانتخاب، والغالب أن سوء الانتخاب هو الذي يؤخر المتأخر، فنفران كلاهما طلبا العلم الديني يصل أحدهما إلى المرجعية، بينما الآخر يبقى في المراتب النازلة، وهكذا كاسبان يصل أحدهما إلى الدرجات الرفيعة من التجارة حتى يكون في الرعيل الأول من التجار، بينما يبقى الآخر بقالاً في دكان صغير، وهكذا سائر من له دور اجتماعي.
ملاك الأدوار الاجتماعية
ثم إن الأدوار الاجتماعية، ليس ملاكها القابليات والكفاءات الفردية، بل اللازم مدخلية الموازين الاجتماعية في قبول إعطاء الدور للذي يريد أن يقوم به، مثلاً: في غالب المجتمعات لا يعطى صلاحية الانتخابات لمن لم يكن بالغاً ـ والبلوغ يختلف ميزانه عند الأديان والأمم ـ وتبعاً لمثل ذلك يختلف دور الشيبة عن دور الكهل، ودورهم عن دور الشباب، ودورهم عن دور الأطفال، كما يختلف دور الرجل عن دور المرأة، ودور العالم عن دور الجاهل، ودور رؤساء القبائل، أو الأحزاب عن دور سائر الأفراد، وهكذا.
وفي الحديث: (اعتمدا في دينكما على كل مسن في حبنا، كثير القدم في أمرنا)(4).
وعدم إعطاء الاجتماع الدور إلى قسم خاص من الناس، قد يكون لموازين عقلية، وقد يكون لموازين عرفية، مثلاً: إعطاء دور الإصلاح إلى الشيبة وذوي الخبرة والتجربة أمر عقلي، أما إعطاء الدور لمن له مال أكثر ـ لمجرد ذلك ـ كما في بعض المجتمعات إنما يتبع العادة، وإلا فالمال لا ربط له بمثل ذلك الدور.
الجماعات والأدوار
والجماعة، حالها حال الفرد، في أنها قد تؤهل نفسها للقيام بدور كثير الأهمية، وقد تبقى عادية، بحيث لا يراها الاجتماع مؤهلة للقيام بذلك الدور، الذي أزمعت القيام به، مثلاً: الحزب الذي يريد الحكم فقد يوجد في نفسه مؤهلات الحكم، ومثل هذا الحزب يصل إلى الحكم، أما إذا لم يوجد في نفسه تلك المؤهلات، وصل الآخرون وبقي هو في ذيل القافلة.
فقد يجد الإنسان في بلد كذا حزباً كبيراً له سوابق مشرقة، وأعضاء بارزين وثقافة عالية، ومع ذلك لا يصل إلى الحكم، بل ولا أمل له بذلك، بينما حزب آخر تمكن من الوصول ـ ولا اقصد وصول القفز بانقلاب عسكري، فإن ذلك الوصول أيضاً لمؤهلات الأجانب الذين كانوا وراء الانقلاب، بالإضافة إلى أن مثل ذلك الوصول لم يكن شرعياً، وكلامنا نحن في الشرعية ـ.
وإذ يحقق في شأن عدم وصول ذلك الحزب اللامع يرى أن عدم وصوله نابع من ذاته، حيث أن مداراته الناس قليلة فلا يستعد الناس لانتخابه سيداً عليهم، فالاجتماع لا يعطيه الدور الذي يطلبه، لأنه ليس بمؤهل في نفسه لذلك الدور… فإن للاجتماع بالنسبة إلى إعطاء الأدوار الرفيعة شروطاً صعبة، لا يحظى بتلك الأدوار إلا أولئك الذين يستعدون للعمل بتلك الشروط.
وإذا فرض أن قفز إنسان إلى ذلك الدور بدون مؤهلاته، أنزله الاجتماع عنه بمختلف الوسائل والسبل، إن قريباً أو بعيداً.
تحرك الإنسان في رتبته
(الرابع) تحرك الإنسان في رتبته، أو في مجتمعه، عمودياً أو أفقياً، فالأول هو أن يتنقل مندرجة أعلى إلى درجة أسفل أو بالعكس كأن يكون مرئوساً فيصبح رئيساً، أو ينتقل من الرئاسة إلى المرئوسية، والثاني أن ينتقل من عمل في الحزب إلى عمل آخر فيه مساو للأول ـ مثلاً ـ أو أن ينتقل من جمعية إلى جمعية أخرى وهكذا، وقد حرض الإسلام على تحرك الإنسان إلى أعلى دائماًن فقال عليه السلام: (من تساوى يوماه فهو مغبون)(5).
ضرورة الرتب
ثم إن المجتمع مهما كان، لابد له من الرتب، وذلك لأن الرتبة من مقتضيات:
1 ـ الطبيعة، حيث أن بعض الأفراد أشجع من بعض، وأكرم من بعض، وأزكى من بعض، وهكذا مما يوجب تقدمهم على الرتبة التي ليست لها هذه المزايا النفسية والجسمية.
2 ـ والزمان حيث أن كبر السن، الذي يسببه مرور الزمان يعطي للكبار رتبة في قبال الصغار، والسبب لذلك أن الكبار أكثر تجربة، وأنهم هم الذين ربوا الصغار ولذا كان لهم احترام أكثر، وهيبة وعزة في النفوس.
3 ـ بالإضافة إلى انقسام المجتمع تلقائياً إلى الرجال والنساء، حيث أن النساء يصلحن لشيء لا يصلح له الرجال ـ لمكان كثرة العاطفة والنعومة فيهن ـ والرجال يصلحون لشيء لا تصلح النساء له، لمكان كثرة التعقل والخشونة فيهم.
4 ـ ثم بحكم احتياج الاجتماع إلى الإدارة يجعل بعض أفراده رئيساً لمكان إرادته، وأولئك الأفراد يشكلون رتبة خاصة هي رتبة الحكام في قبال رتبة المحكومين.
وهذه الرتب موجودة في كل اجتماع سواء كان ابتدائياً، أو متقدماً صناعة، نعم الفارق أن الاجتماع الابتدائي ليس فيه بعض الرتب من باب السالبة بانتفاء الموضوع، مثل المخترعين أو الأحزاب، أو ما أشبه ذلك، أما الزعم بأنه لا تفاوت وفي الرتب في الاجتماعات الابتدائية، لأن التفاوت يأتي من الملكية الفردية، ولا ملكية فردية في تلك المجتمعات، فالدليل على خلافه، لا في الرتب فحسب، بل في الملكية الفردية أيضاً، وقد دلت التجارب التي أجريت على أمم معاصرة تعيش عيشة البداوة، فظهرت النتائج أنهم توجد فيهم الملكية الفردية، والرتب.
والمجتمع الماركسي الذي بنى دولته وأمته على آراء ماركس، ظهر له عدم استقامة تلك الآراء، ولذا رجعت إليه كل الحقائق الإنسانية، كالرتب والملكية الفردية، وعدم إشاعة النساء، وغير ذلك، وإنما كل ما فعله ذلك المجتمع أن سلب الإنسان دينه وأخلاقه وحريته بالقوة ـ بقدر ما تمكن من سلبها ـ وإلا فنفس تلك المجتمعات أيضاً فيها كثرة كبيرة من المتدينين، ولكن تعيش تلك الكثرة تحت الكبت والإرهاب.
عوامل تكون الرتب
ثم إن الغالب في سببية تكوين الرتب هو:
1 ـ الثقافة: فالمثقفون يشكلون رتبة في قبال غيرهم، والأرفع ثقافة كالطبيب والمهندس والمرجع والخطيب البارع ونحوهم يشكلون رتبة في قبال الأقل ثقافة.
2 ـ والملكية: تكون رتبة الملاك في قبال غيرهم، والأكثر ملكاً يكون رتبة في قبال الاقل ملكاً، ولا يخفى أن الملك الحاصل من الأسباب الخمسة السابقة [العمل الجسدي، والفكري، والمواد، والشرائط، والعلائق] مشروع وما عداه ليس بمشروع.
3 ـ والحكام يشكلون رتبة في قبل سائر الناس، ولا يخفى أن الحاكمية المشروعة في الإسلام هي التي يتوفر فيها شرطان:
أ ـ مواصفات الإسلام.
ب ـ انتخاب الناس [وهذا وإن كان راجعاً إلى بعض المواصفات أيضاً. إلا أنه افرد بالذكر لأهميته].
وهذه الثلاثة هي أصول أسباب تكون الرتب، وإن كانت هناك فروع أخر من نفس هذه الأصول أو غيرها.
التفاوت الصحيح والتفاوت الباطل
ثم إن الرتب إذا رجعت إلى أسباب عقلائية صحيحة كانت صحيحة، كالثقافة والملك عن استحقاق والحكم عن استحقاق، أما إذا رجعت إلى أسباب غير صحيحة كانت باطلة، ويلزم إزالتها، مثل الحكومة الديكتاتورية الموجودة في الشيوعية، حيث أن الحكام يصلون إلى الحكم بالإرهاب والكبت، ومثل المالكية الرأسمالية الغربية، حيث أن المالكية لا تكون إلا بأكل أتعاب الناس، وإذا كانت الاختلافات فاسدة، أفسدت أيضاً، كما أفسدت الحكومة الشيوعية مسألة المال فأخذته من أيدي المستحقين إلى يد الحكومة، وكما أفسدت الرأسمالية الغربية مسألة الحكم، حيث تحكم رأس المال في الانتخابات ـ على ما ذكرنا تفصيله في [فقه الاقتصاد].
ولا يخفى، أن الانحراف ينتهي إلى سقوط المنحرف، ولذا يتنبأ الخبراء بسقوط الشرق الديكتاتور والغرب الرأسمالي، كما سقطت قبل ذلك الرومان حيث قسمت الناس إلى الأشراف والعوام والعبيد، وسقطت حكومات القرون الوسطى، حيث قسمت الناس إلى ملاك الأرض، والعبيد، وسائر الناس، وكذلك سقطت الدولة الفارسية لمثل ذلك.
ثم إن منشأ العبيد في الإسلام، غير منشأه في تلك الدولة، وقد ذكرنا في [الفقه الاقتصاد] تفصيل ذلك… أما وجه سقوط المنحرفة، فهو أن الإنسان حيث خلق نقي الفطرة، لابد وأن يميز الانحراف عن الاستقامة، مهما تزود الانحراف بالمال والقوة والدعاية، وإذا ميز الناس ذلك أخذوا في هدم الانحراف إلى إسقاطه… وإنما يطول أو يقصر زمان الانحراف تبعاً لعاملين:
1 ـ عامل قوة كيد المنحرف.
2 ـ عامل ذكاء الذين يريدون إسقاطه، وعلى أي فالباطل ساقط.
قال سبحانه: (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل)(6).
وقال صلى الله عليه وآله: (تضايقي تنفرجي) وورد: (للحق دولة وللباطل جولة)(7) إلى غير ذلك من الآيات ، والروايات، وأقوال الحكماء، بالإضافة إلى التجارب، ولذا فمن الأجدر بالإنسان أن يمشي في الطريق المستقيم، وقد سأل الإمام عليه السلام ما الحيلة؟ فقال عليه السلام: في ترك الحيلة.
ثم إن أول ما يوجب إسقاط المنحرف، هو وعي الناس، ولذا يمارس المنحرفون سياسة التجهيل؛ ويجعلون العقوبات الصارمة للوعاة والمرشدين، فمثلاً: حكومة البلاد الشيوعية تحضر العلم التوعوي، كما تحضر الحريات التي تنتهي إلى العلم، فيزعم كثير من أهل تلك البلاد أنه لا شيء وراء الشيوعية.
كما أن الرأسماليين في البلاد الغربية يوهمون الناس أنهم في نعيم، وأنه ليس وراء ما هم فيه تقدم ورفاه وحرية، فالطبقية المنحرفة آخذة بالأكظام في كلا النظامين وإن كانت الكيفية فيهما مختلفة ولذا نرى أن أكثر الأولاد في كلا النظامين لا يتمكنون من التخلي عن حرفة آبائهم، حيث ليس المجتمع منفتحاً يتمكن كل إنسان فيه من تقريب مصيره بنفسه، كما نرى في كلا البلدين أن الزواج بين الرتب السفلى والعليا شبه معدوم، وذلك لانحراف الثقافة، حيث جعلت الحواجز النفسية، ولا مخلص للشعوب من هذين النظامين إلا بالوعي والحرية.
تأثير الرتبة في لإنسان
(الخامس) دور تأثير الأمور السابقة في حياة الإنسان، فإن الرتبة على قسمين:
أ ـ الرتبة عن استحقاق النابعة عن المؤهلات الحقيقية كالعلم والمال المستحق والحاكمية الانتخابية وما أشبه، وهذه الرتبة لا توجب فساداً وتخريباً، بل بالعكس عدمها يوجب حرمان ذي الحق عن حقه.
ب ـ الرتبة لا عن استحقاق، كالموجودة في النظام الرأسمالي، أو الشيوعي، وهذه الرتبة توجب إسراف رتبة وحرمان رتبة.
وقد روي عن علي عليه السلام أنه قال: (ما رأيت نعمة موفورة إلا وإلى جانبها حق مضيع).
وهذا التفاوت المنحرف يوجب حرمان الرتبة النازلة عن كثير من الأمور الحيوية، بينما لو كان الاختلاف مستقيماً، كان أفراد البشر سواء أمام كل مؤهلات الحياة.
1 ـ نهج البلاغة/ صالح/ ص431.
2 ـ سورة الأعراف آية 157.
3 ـ سورة الحجرات آية 13.
4 ـ رجال الكشي ص4 ح(7) طبعة مشهد، والمذكور فيه فاصمدا في دينكما.
5 ـ وسائل الشيعة ج/ 11 ص376.
6 ـ سورة آل عمران آية 196.
7 ـ الكافي ج/ 2 ص447.