شاعر المدينة (1)
أمطار ذاك الصباح تبلل معطفه البني وهو يتجه إلى سيارته ليدير محركها ، فالثورة تنتظر منه الكثير ، له اليوم موعد مع شباب المدينة ينتظرون منه التعليمات ، ففريق يتولى إدارة الفيديوهات علي صفحات الأنترنت، وفريق آخر يستعد لمواجهة آلة الحرب المدمرة ، وفريق ثالث ينقل الجرحى والمصابين إلى مستشفى المدينة ، وشاعرنا مهمته أن ينظم كل هذا ، ويبقى على اتصال بأخبار الثورة في المنطقة الشرقية، وكان أحياناً يقطع ألف كيلومتر لكي يحصل الاتصال المباشر مع شباب الثورة في المنطقة الشرقية .
أدار محرك السيارة تحت زخّات المطر متوجهاً إلى قلب المدينة ، فلمحت عيناه في أطراف الشارع الخلفي عمر ونضال وجهاد وقد تجمعوا ينتظرون قدومه ، نزل من السيارة وصافح الشباب بحرارة وشد على أيديهم بقوة ، وحدثهم حديثاً مقتضباً عن دورهم في الثورة مستنهضاً فيهم همم الرجال ، وكان فصيحاً بليغاً له سطوة على اللغة العربية ، إذا تحدث بها أخذ العقول والقلوب، وبالتالي كان يعتبر لسان الثورة في المدينة ، حمّلهم الرسالة ثم غادر مستقلاً سيارته حتى إذا وصل إلى ساحة المدينة وجد جمعاً غفيراً من الشباب ينتظرونه تحت المطر مشكلين فرقاً ذات مهام مختلفة ، وما إن نزل حتى بشرهم بأخبار الجبهة الشرقية بكونهم حققوا نصراً كبيراً على مرتزقة النظام ، فعلت حناجرهم بالتكبير رفعاً للمعنويات ، ثم أمرهم بعد ذلك بالتفرق إلى مهامهم ، وفي هذا اليوم كان على موعد مع سفر طويل حيث يزور الجبهات المشتعلة ، لكن اعترضه نبأ هز كيانه ، وأحدث زلزالاً داخله ، فالشباب الذين صافحهم قبل قليل قد وقعوا في الأسر وهم نضال وعمر وجهاد ، وهؤلاء يمثلون الخلية الإعلامية لثورة المدينة ، وكان نضال أكبرهم سناً فهو قائد المجموعة ، وكان خبيراً في الإعلاميات والأنترنت لذا ذاع صيته وأصبح مطلوباً للنظام بأي ثمن ، وأما عمر فقد كان شاباً طرياً من أسرة ميسورة سهلت له طلب العلم في بريطانيا ، وكان فتىً ذكياً حاضر البديهة ، وكان يجيد اللغة الانجليزية قراءة وكتابة ، أما جهاد فقد كان شاباً يافعاً تجري في عروقه حرارة الشباب ، وكان جَلَداً لا يهاب الصعاب .
بينما كانوا منكبين على إعداد حزمة من الفيديوهات ، اقتحمت قوات الظلم مخبأهم ، فصادرت منهم أجهزة الحاسوب ومجموعة من المعدات الإلكترونية ، وتوجهت بهم سيارة الاعتقال إلى العاصمة وهم لا يعلمون ، فقد كانوا معصوبي العينين ، وعلى طول رحلة مائتين كيلومتر كانوا يُضربون على وجوههم ويُشتمون بأغلظ الألفاظ النابية ، لكن وطّنوا أنفسهم على عدم الإدلاء بأي حديث مهما بلغت درجة العنف الجسدي والنفسي وتعاهدوا على ذلك ، وكانت كلمات الشاعر تفعل فعلها في نفوس الشباب ، حيث كان آخر من قابلوه قبيل القبض عليهم ، وحديثه لهم كان لازال غضاً طرياً يتردد صداه في آذانهم ، وكانوا يحملون همّ تأثير خبر اعتقالهم على نفسية الشاعر أكثر من تأثيره على ذويهم ، كيف لا وقد جمعهم غرام الثورة وعشقها وصنع منهم لحمة متحدة وجسداً .
وصلوا إلى العاصمة وهم لا يعلمون ما الذي ينتظرهم من التعذيب في سجون القرون الوسطى ، نزلوا مكبلي الأيدي والأرجل ومغمضي العينين وسيقوا إلى سجن انفرادي ، حتى إذا حل الظلام أتاهم من كُلف من طرف جهات عليا للتحقيق معهم ، يقول عمر دخل علينا تلك الزنزانة وفي يده كيس أنيق بداخله سندويتشات وعلب عصير وكان يوماً عصيباً قد أخذ منّا الجوع مأخذاً كبيراً ، فرأى على وجوهنا آثار الضرب والتعذيب أثناء الطريق ، فرقّ قلبه لحالنا أو هكذا بدا لنا ، ألقى علينا التحية وبادر بالحديث قائلاً لا تحقيق معكم حتى تأكلوا ، فاستغربنا لمعاملته إيانا بهذا الشكل ، وبعدها جاءته مكالمة على هاتفه النقال ، وفهمنا من المحادثة أنها تخصنا وأنه كان يحادث مسؤولاً أعلى منه رتبة لأنه كان يُكثر من كلمة حاضر سيدي .
وبعد أن أكلنا وشربنا وكان هو قد أنهى مكالمته الطويلة ، توجه إلينا بالسؤال لماذا أنتم هنا ؟ ومن ضربكم هكذا على أجمل ما تملكون ؟ يقصد بذلك وجوهنا ، وتتالت الأسئلة وتبين لنا أنه يعرف أسماءنا وتفاصيل حياتنا ، ومن خلال أسئلته بدا لنا أنه على قدر كبير من الثقافة ، وحاول أن يبرز لنا خطأ ما نفعله ، وكان أحياناً يحاول أن يوهمنا أنه معنا لكن لا يوافق على صيغة الثورة .
وبعد كثير من الأسئلة التي كان يسترسل في طرحها دون أن ينتظر منا الجواب ، لأنها كانت تحمل في طياتها الإجابة ، وبعد أن حلل وشرّح الوضع السياسي في البلاد ، تدخل جهاد وبادر بالقول أتسمح لي أفندي أن أجيبك على هذه الأسئلة ، حينها وضعت يدي على قلبي وكنت أعرف حدود جرأة جهاد جيداً ، فقال له الضابط تكلم ، فقال جهاد
ً بداية أن استقبلتنا بهذا الشكل ، فقد أكدت لنا انتماءك لهذا الوطن ونكبر فيك ذلك ، لكن لنكن صرحاء ، نحن والنظام وقفنا على مفترق الطرق، أو لنقل لقد وصلنا إلى نقطة اللاعودة ، وأنت تعلم أنها سالت منا دماء ، وانكسرت منا عظام يصعب جبرها ، لهذا أقول لك لا طائل ولا فائدة من هذا التحقيق فالذي ترتضيه لن تجده عندنا .
أحسست وهو يتحدث إلى الضابط بهذه اللهجة أن مصيرنا سيكون الإعدام الليلة قبل الغد ، أما الضابط فقد كان ذكياً ، حاول أن يكظم غضبه ثم انصرف ، فقام نضال إلى جهاد وقال ما هذا الذي قلته للضابط ؟ فقال لقد أردت أن أضيق عليكم مساحة الحوار فأعطيته جواباً حاسماً .
كان وقتها شاعر المدينة يتلمس أخبارنا ، فثورة المدينة أصبحت معزولة عن العالم ، إذ كنا نحن همزة الوصل بالعالم الخارجي ، وبغض النظر عن دورنا في الثورة ، فعلاقتنا بالشاعر كانت علاقة تختلط فيها الأبوة بالبنوة ، إذ يقول الشاعر محاوراً شباب المدينة ، يا أيها الشباب دلوني ماذا أفعل ، لقد اختلطت علي المشاعر ، وضاعت مني الأبيات وأنا الشاعر ، تحلق حوله الشباب وحاولوا أن يخففوا عنه ألم المصاب ، وذكروه أن عمر ونضال وجهاد لا خوف عليهم فقد يموتون تحت التعذيب ولا يسيئون لهذه الثورة ، بهذه الكلمات استطاع الشاعر أن يسيطر على مشاعره وانفعالاته وأن يصطبر على ثلاثة شباب ما أراد لهم أن يكونوا تحت رحمة الجلاد ، لكن هي الثورة إذن ، وهذه ضريبتها ، للثورة رونق خاص حينما يحمل رايتها الشباب ، وللثورة غصة في الحلق حينما يكون أكثر قتلاها من الشباب، ركيزة التنمية، وعماد الأمة ،وأمل المستقبل، وزهرة الدنيا، وزينة العمر ، وجمال الكون، وحلم الحياة، وصنّاع الحضارة ، وسحر الوجود ، ورواد الإبداع ، وَسَادة التمرد على كل قديم.
بقلم رشيد عانين