سبع رصاصات في قلب ودود

سبع رصاصات في قلب ودود

علي جادة شارع فرانكلين وسط عاصمة بريطانيا لندن جلست وصديقي لنشرب بعض القهوة ولنتداول أخبار الربيع العربي وتأثيراته على القضية الفلسطينية وانعكاساته على القادم من الأيام خاصة ونحن مقبلون على يوم الأرض وتظاهرات يقال أنها ستكون مليونية من أجل القدس الذي يئن تحت وطأة الاحتلال الصهيوني ،وقلّبنا صفحات الجرائد بحثاً عن مقال يتناول قضيتنا لكن صديقي حاصرني بسؤاله ماذا تختزن ذاكرتك عن يوم الأرض وأنت المولود هناك؟ وماذا يمثل بالنسبة لك يوم الأرض يا ودود ؟ ولا أخفيكم سراً أن صديقي هزني بعنف بأسئلته التي كانت حروفها صادمة ، أخذت نفساً عميقاً وشددت الرحال إلى زمن قريتنا حيث الصباح الجميل والنسيم العليل يَغْسِلُ وجهي كل يوم أستيقظ فيه باكراً كي أطالع دروسي قبل التوجه إلى بوابة العلم والمعرفة ،مدرستي التي لا تبعد عن بيتنا المتواضع وعن زيتونتنا الضاربة جذورها في أعماق التاريخ سوى بضع دقائق في قلب قريتنا الجميلة بنسيم واديها ووفرة مياهها العذبة وزيت زيتونها العتيق ومحبة أهلها الطيبين الطاهرين ، عمو ياسين وعمو عزام وعمو صلاح الدين هم نجوم قريتنا ، نجلس إلى مجالسهم ونأتمر بأوامرهم والحياة تغدو سلسة، مخملية الملمس، حلوة المذاق، طيبة المعاشرة ، قريتنا هي قيمتنا، فترابها أغلى من الذهب مشى عليه الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين ، ورائحة تراب قريتنا أطيب من ريح المسك ونباتها مبارك، زيتون و نخل و رمان، وجداولُ مياهٍ تجري بإذن الحنان المنان، تبارك الرحمن صنع كل شيء بإحسان .
في قريتنا لا تخاف الطيور على وُكُناتها ، فالسلام والأمان ظاهرٌ جليٌ في كل ركن من أركان القرية ، فالروابط متينة بين أفراد القرية شيبا وشبابا ، ونحن أطفال كنا نتشرب هذه الأخلاق العالية في متون أحاديث شيوخنا العظام ، وتميل الشمس إلى الغروب فتزدان قريتنا بنجوم تتسطح تواضعاً فوق وجه الوديان والجداول، ويظهر القمر خجولا متكسرا على سطح الماء ، ولليل حكايات أخرى وذكريات مدفونة في بطون بيوت لو سألتها لقالت من هنا مر رجال عمروا الأرض حباً وعدلاً ، وعلى هذه الصخرة بكى الفاروق ، فكل شيء في قريتنا مسكون بحديث الليل ، فالشجر والحجروالبحر والنهر والطير والقطمير كل هنا يتحدث ولكنكم لا تفقهون حديثهم، مواجع الزمان تركت أخاديداً على المكان سوداً وبيضاً تحكي أهوال القيامة قبل القيامة ، في قريتنا رأينا المعجزات رأي العين، أطفالاً رُضّعْ يتكلمون ويشجبون كما يشجبون القادة العرب، ويفهمون في السياسة والخطب ، في قريتنا حب وحرب ، حب للأرض ولترابها وحرب على الأرض وعلى غزاتها .
في قريتنا الزمان يتوقف ويبكي والمكان له أزيز كأزيز النحل فأديمه صفحات كتاب بين أسطره عز وهوان ، نصر وخذلان،غنى وحرمان .......... في قريتنا، قتلوا أبي وأمي، قتلوا من يمسح دمعتي ، قتلوا في قلبي الحنان ، قتلوا في براءة الطفولة ، قتلوا وما قتلوا في نخوة الرجولة أقسمت بالذي خلق الكون من عدم وخلق الناس عرباً وعجم أن أنتقم ،من أولئك الذين جرفوا وحرقوا وفرقوا الابن عن أبيه ، من أولئك الذين اقتلعوا الأشجار وجاسوا خلال الديار كل ذلك أتذكره وكأنه البارحة ، استشهد من استشهد وهُجِّرَ من هُجِّرْ فوجدت نفسي في قرية غير قريتي ، تألمت كثيراً لفقدان أهلي لكن كنت أخلط ذاك القسم الذي أقسمته مع صور مرعبة صورتها ذاكرتي وحب وحرب مدفونان في فؤادي كل ذلك أخلطه في إناء واحد وأصوغ من الهجين عجين يُزرع فيه الحب حرباً على من شتتوني في البوادي .
تأخذ الحياة في مخيمات لبنان منحى آخر، والقضية تكبر في ذهني يوماً بعد يوم أكثر فأكثر ، ويشتد عودي وتشتد الصراعات في داخلي، وينمو حب الانتقام، وتزداد مساحة الفراغ و الحرمان ، وهنا في لبنان ألتقي صديق الطفولة والقرية ، صديقي أحمد الذي قصته لا تختلف كثيراً عن قصتي فهو كذلك فقد أمه وأباه ، كنت أنا وإياه نتقاسم مرارة العيش، وما العيش إلا عيش الآخرة، كنا نتلذذ بالعذاب في جو المخيمات التي تنعدم فيها أدنى شروط العيش الكريم ، كنت أجوب في المخيم طولاً وعرضاً أحكي مأساتي ، أحكي عذاباتي ،أحكي ذكرياتي ، أحكي ألامي، أحكي آهاتي ، أحكي أوجاعي ، والمأساة ليست قصة طفل ضاع كيانه وتحطمت حياته وتمزقت أوصاله وتشتتت أحلامه ، بل هي مأساة شعب ضاق من العذاب ألوانا ، وجار عليه الزمان ، كنت أجوب شوارع المخيم أصحح للناس فهم القضية ، وفي أحد الأيام التقيت بناشط بريطاني وحدثته عن البعد الديني في الصراع الصهيوني وأعجب بتحليلي ونباهتي واقترح علي السفر معه إلى الأردن ومن هناك إلى بريطانيا لكن رحلتي توقفت في الأردن ولم أستطع السفر إلى بريطانيا ، فقلت في نفسي وما يدريك أن مكوثي في الأردن فيه خير ، وتدحرجت الحياة ترسم في قلبي خطوط المعاناة ، كنت في كل زفرة أخرج رواسب الماضي الأليم، الفظه أمامي فيشكل صوراً حية تعمق الجرح أكثر فأكثر ، وأي طبيب أمكنه مداواة شعب بأكمله حط رحاله بقلب طفل عشق العذاب وتعالى عن الجراح وتخطت قدراته على الاحتمال حدود المألوف، وأي إنسان يحمل بين ضلوعه قلب رحيم أن يتصور حياة طفل يصارع أعباء قضية شعب، وهُجِّر وهو ذو التسع سنين.
وفي الأردن بدأت تتشكل ملامح المستقبل الغامض للقضية الفلسطينية ، فالنكبات ثم النكسات تتوالى وتحدث شرخاً في الوطن العربي ، ودعاة القومية العربية فشلوا في توحيد الصف العربي ، وخدام بني صهيون يتناحرون على فتات موائدهم ، وفي ظل هذا وذاك كنت أعيش حالة من الشتات في مخيمات الشتات ومساحة الانتقام تزداد اتساعاً في قلبي على زمن يذل فيه العزيز ، لكن أقولها للمحن آثار عجيبة في صقل مواهب الرجال .
في الأردن تعرفت على أصدقاء احتضنوني كما يحتضن الأب ابنه وأنا اليتيم ،واليتم عندي يتمان ،يتيم الأبوين ويتيم الوطن، فحالة الحب التي كانت تحيطني تنسيني أحيانا الحزن العميق الذي يعتريني ، كان جمال وفيصل أحب صديقين إلى قلبي ،كنا نجلس أحيانا للسمر والليل عندي يُقًلِبُ مواجع تذهل لها المرضعة عما أرضعت ، سألني فيصل هل تتذكر شيئاً عن طفولتك ؟ ضحكت وقلت له ما هذا السؤال ، إني أحمل معي أدق التفاصيل في ذاكرة استفزها العدو فاعتبرت النسيان خيانة للقضية الفلسطينية ، فاسمع مني إذن ولا أظن أن هذا الليل سيبزغ له فجر.
في بيت عامر بالحب والحنان كنت أعيش أنا وخمسة من إخوتي ، أبي كان مزارعاً يملك سبعة فدادين ، كان رحمة الله عليه يزرع العنب والزيتون والنخل والرمان ، وكان يرتبط بالأرض أيما ارتباط فمنها كنا نأكل ومنها كنا نشرب وفي ليلة حالكة السواد ، غاب فيها القمر ، وانطفأت فيها النجوم ، وعلا فيها الصراخ دخل فيها العدو الصهيوني إلى قريتنا ، هدموا البيوت وسالت الدماء أنهاراً ، ووصلوا إلى بيتنا وخطفتني أمي إلى حضنها،واصطف إخوتي صفاً واحداً للدفاع عن بيتنا والقرية تنهار في يد المحتلين البيت تلو الآخر ، ويا لهول المشهد إخوتي يسقطون شهداء واحد وراء الثاني حتى إذا ما بقي أبي خرّ صريعاً أمام آلة التدمير الصهيونية ، وقتها حضنتني أمي حتى كادت أن تكسر أضلعي ،لكن وحوش هذا الزمان اقتلعوني من صدر أمي وأردوها شهيدة أمامي ،كيف يكون حال صدرك وأنت تنظر إلى صدر أمك ينتفض حتى مات ، ثم التفت إلى جمال وقلت له هل تعلم أن سبع رصاصات قتل بها أهلي لازالت آثارها في قلبي محفورة إلى الآن ، فدمعت عيناه وقال لي نحن أهلك نموت على ما تموت عليه ونحيا على ما تحيى عليه ، فعيوننا ترحل كل يوم إلى بيت المقدس ، والقضية بالنسبة لنا إيمان وليست مزايدة ولا متاجرة وأنت تعلم مكانة قلبك في قلوبها ، ثم قال أتمم يا ودود عذراً على المقاطعة .....
نعم أخذني جيش الاحتلال وقلبي ينزف من هول المصيبة وعلى وجهي اختلطت دماء أمي بدموعي ، كنت أبكي والدمع يجرف دماً في طريقه كان قد تناثر على وجهي من جسد أمي ، أمي ليست كأحد من البشر ، أمي من جمالها كان يستتر القمر ، أمي بوجودها كان يندثر الضجر ، أمي بحنانها كانت تسقي الناس كالمطر ، أمي في قلبي خالدة كذاك الزيتون كذاك الشجر ، أمي ينبوع دافئ تشقق له الحجر، أمي أمي أجمل من القمر.
أخذني جيش الاحتلال إلى معسكرات الاعتقال ولا أدري كيف أحزن على فقدان سبعة أفراد من أسرتي، ولا أعلم إلى أين أساق، ولا أعلم شيئاً عن التوطين والتهجير ، وما كنت أعلم أن الليالي الماطرات الباردات ستجدني بعيداً عن حضن أمي ،ليس لي سوى رب يحميني ويبتليني حتى أكون في مستوى القضية ، ليال طوال قضيناها في معسكرات الاعتقال، نواصل الليل بالنهار جوعاً وبرداً وصقيعاً وألماً على فقدان ذوينا ، وتجرعنا كؤوس الذل والهوان على يد المستعمر الغاصب، وبعد أسابيع تم ترحيلنا إلى جنوب لبنان ، ثم كان قدر الله أن كنت الآن مع أناس أحبهم ويحبونني وأكثر من ذلك يحملون هَمَّ القضية بل ولهم الاستعداد الكامل للموت من أجلها .
ثم تدخل فيصل قائلاً نعم نحبك في الله وليس لسواه ....
آه ثم آه لو لم أجد أناساً حضنوني بقلوبهم لكنت في عداد الحيارى السكارى ، لكن تدبير الحكيم الخبير ، يهيئ نفوس دون نفوس ويبتلي أناس دون آخرين ، وفي كل ذلك حكمة ونعمة .
الحمد لله الذي يسر لي أخيراً السفر إلى بريطانيا ليس حباً فيها ولكن حرباً على أعدائي الصهاينة .
ليس ببعيد عن هذه المقهى التي نجلس فيها يتربع بيت فيه من الذكريات ما يعود إلى ثلاثين سنة خلت ، وقتها لازلت أتحسس شوارع لندن وقعت عيني على شخص لا أرغب في رؤيته ، رجل يحمل بين ضلوعه قلب غليظ ووجه متجهم قبيح جمع بشاعة الدنيا كلها ، مقطب الجبين ، يعلوه سواد وظلام يكاد يسبق خطاه ، تحاملت على نفسي وسلمت عليه وأعطيته رسالة كنت أحملها إليه ، رحب بي وأضافني رقماً إلى عماله ، لكن قلت في نفسي إني لن أكون الرقم المهمل بل سأكون الرقم الذي سوف يحدث فارقاً مهولاً في حياة هذا الصهيوني ، ومرت الأيام فوجد في ذلك الشاب النشيط الذي إذا عمل عملاً أتقنه ، فأحسست في نفسي أني أسلك الطريق الصحيح فتسللت إلى أسرته وأسرت إثنين من أبنائه ووضعتهم في قلبي ، أحببتهم حباً لو وزعته على أهل فلسطين لكفاهم ، وحينما سكنت أفئدتهم إلى فؤادي، بدأت أولاً بالحرث ثم السماد فالأرض قاحلة مجذبة ليس فيها من نبات إلا بقايا من خردل اقتلعتها من جذورها وزرعت مكانها الزيتون والنخل والرمان ، فكانت أولى خطواتي أن قمت ليلة كاملة لله إيماناً واحتساباً طمعاً في أن يكتب الهداية لهؤلاء الشباب ، وما حصل بعد ذلك ليس له تفسير إلا أن الله إذا أعطى أدهش ، حيث أسلم على يدي هؤلاء الشباب بل أكثر من ذلك زرعت فيهم حب القضية ، وبلغ الخبر إلى أبيهم الفرعون الأكبر وجن جنونه واعترفت أمامه بجريمتي ، وقلت له ألا تذكر أبداً بين صفحات كتابك الأسود أنك قتلت سبعة فلسطينيين من بيت واحد فأنا ثامنهم وأقسمت حينها أن أنتقم منك وهذا هو انتقامي ، فأنت قتلت وأنا أحييت شباباً إذ أدخلتهم إلى الإسلام وسيحملون لواء الحرب عليك وعلى أعداء القضية الفلسطينية ، كل ذلك حدث وأبناؤه يرمقونه بنظرات قاتلة ، ثم خرجت منتشياً كوني انتصرت عليه ،وما هي إلا خطوات قليلة خطوتها خارج بيته حتى سمعت صوت سبع رصاصات يخترقن أجساد شباب كرهوا أن يكونوا وقوداً للصهيونية على حد تعبيرهم ، لكن لله عز وجل حكمة بالغة في كل ذلك فهاهو يقتل أبناءه بيده ثم يجر إلى الاعتقال جراً فتتراءى لي صورتي وأنا طفل صغير يعتقلني ويعذبني وشاء الله عز وجل أن رأيته وأنا حر طليق وهو مصفد في السلاسل وذنبه قاتل أبنائه غيظاً أن راءهم للإسلام يعتنقون ، فما كان مني إلا أن جثوت على ركبتي وقبلت كلاً من يوسف ويعقوب على جبينهما ودعوت لهما بالرحمة والمغفرة ................. وإلى قصة أخرى بعون الله تعالى .

القصة من وحي الخيال

يسلمو ايديك

يسلمووووووو