:فغثقغث:
معالم النهضة الإسلامية
وفي سبيل ذلك قام نور الدين محمود بإحياء نهضة إسلامية أكدت على تكامل الحل الإسلامي، وقد تم التعبير عنها من خلال:
1- القيادة الإسلامية الصادقة:وتمثلت في شخصه وأشخاص من حوله من القادة والمسؤولين والعلماء. فقد كان للتكوين النفسي والشخصية المميزة لنور الدين محمود أثرهما الكبير في وجود قيادة إسلامية واعية، جادة، مجاهدة. قال ابن الأثير: «طالعت تواريخ الملوك المتقدمين قبل الإسلام، وفيه إلى يومنا هذا، فلم أرَ بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن سيرة من الملك العادل نور الدين. فلقد كان «ذكياً، ألمعياً، فطناً، لا تشتبه عليه الأحوال، ولا يتبهرج عليه الرجال»، ولم يتقدم لديه إلا ذوو الفضل، والقدرة على الإنجاز الأمين المسؤول للعمل، ولم ينظر في تقديمه للرجال إلى المكانة الاجتماعية أو للجنس والبلد. كما عرف نور الدين بتقواه وورعه فقد كان حريصاً على أداء السنن وقيام الليل بالأسحار. فكان ينام بعد صلاة العشاء ثم يستيقظ في منتصف الليل فيصلي ويتبتل إلى الله بالدعاء حتى يؤذن الفجر. كما كان كثير الصيام. وتميز بفقهه وعلمه الواسع فلقد تشبه بالعلماء واقتدى بسيرة السلف الصالح، وكان عالماً بالمذهب الحنفي، وحصل على الإجازة في رواية الأحاديث وألف كتاباً عن الجهاد. وكان ذا طبيعة جادة، كما رزقه الله قوة الشخصية فكان «مهيباً مخوفاً مع لينه ورحمته» ومجلسه «لا يذكر فيه إلا العلم والدين والمشورة في الجهاد» «ولم يسمع منه كلمة فحش قط في غضب ولا رضى صموتاً وقوراً. وكان زاهداً متواضعاً فقد «كان أدنى الفقراء في زمانه أعلى نفقة منه من غير اكتناز، ولا استئثار بالدنيا»، وعندما شكت زوجته الضائقة المادية أعطاها ثلاثة دكاكين له بحمص وقال «ليس لي إلا هذا، وجميع ما بيدي أنا فيه خازن للمسلمين لا أخونهم فيه، ولا أخوض في نار جهنم لأجلك.
قال له الشيخ الفقيه قطب الدين النيسابوري يوماً «بالله عليك لا تخاطر بنفسك وبالإسلام، فإن أصبت في معركة لا يبقى من المسلمين أحد إلا أخذه السيف». فقال له نور الدين «يا قطب الدين!! ومن محمود حتى يقال له هذا؟ قبلي من حفظ البلاد والإسلام؟ ذلك الله الذي لا إله إلا هو.
وعلى اتساع نفوذه وسلطانه جاءه التشريف من الخلافة العباسية وتضمن قائمة بألقابه التي يذكر بها على منابر بغداد تقول «اللهم أصلح المولى السلطان الملك العادل العالم العامل الزاهد العابد الورع المجاهد المرابط المثاغر نور الدين وعدته، ركن الإسلام وسيفه قسيم الدولة وعمادها، اختيار الخلافة ومعزها، رضي الإمامة وأثيرها، فخر الملة ومجدها شمس المعالي وملكها، سيد ملوك المشرق والمغرب وسلطانها، محي العدل في العالمين، منصف المظلوم من الظالمين، ناصر دولة أمير المؤمنين»!! فأوقف هذا كله واكتفى بدعاء واحد هو «اللهم وأصلح عبدك الفقير محمود بن زنكي.
وعرف باتساع شعبيته وحب الناس له حتى في البلاد التي لا يحكمها، وكان يستشعر إحساساً عظيماً بالمسؤولية تجاه الزمن أن يضيع وتجاه الدم المسلم أن يراق والكرامة الإسلامية أن تهدر والأرض الإسلامية أن تستباح فكان يصل في عمله الليل بالنهار. وكان لا يهمل أمراً من أمور رعيته.
وحباه الله تكويناً عسكرياً فذاً حمل من خلاله تكاليف الجهاد الشاقة 28 عاماً بنفسية جهادية صادقة.
2- التزام أحكام الإسلام وتطبيقها:
حرص على تطبيق أحكام الإسلام على الجميع، وكان قدوة في الالتزام بها، وطبقها على مسؤولي الدولة وقادتها، وكما حرص على رد الحقوق إلى أصحاب المظالم وكان يقول «حرام على كل من صحبني أن لا يرفع قصة مظلوم لا يستطيع الوصول إليَّ»، وفي توحيده لبلاد المسلمين كان يحرص على عدم إراقة دماء المسلمين ولذلك كان ذا صبر وحكمة وتأن في ذلك، لقد كان رحمه الله يحفظ الشريعة المطهرة ويقف عند أحكامها. ورغم اضطراره للاصطدام بالعديد من زعماء المدن والقلاع المسلمين في سعيه لتحقيق الوحدة أو لتحالفهم مع الفرنج...، إلا أن دم المسلم كان عنده عظيماً، وكان «لا يقصد ولاية أحد من المسلمين إلا لضرورة، إما ليستعين على قتال الفرنج أو للخوف عليها منهم. وعندما تحالف حكام دمشق مع الصليبيين سنة 544هـ جاهد الصليبيين دون إيذاء المسلمين وضياعهم، وقال «لا حاجة لقتل المسلمين بعضهم بعضاً وأنا أرفههم ليكون بذل نفوسهم في مجاهدة المشركين». لقد شاهد الدماشقة حرمته حتى تمنوه، ودعوا الله أن يكون ملكهم. وعندما رفع عليه أحدهم قضية إلى القاضي، استدعاه القاضي فقال: السمع والطاعة «إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا»، إني جئت ها هنا امتثالاً لأمر الشرع». وفي مرة أخرى دعي للقضاء فاستجاب ولما ثبت أن الحق مع نور الدين وهب لخصمه ما ادعاه عليه. لقد ألغى رحمه الله الضرائب التي تزيد عن الحد الشرعي رغم ما كانت تدر من دخل كبير على ميزانية الدولة ورغم ما يمكن تبرير وجودها -عند البعض- بظروف البلاد والحرب. وكان يقول «نحن نحفظ الطريق من لص وقاطع طريق... أفلا نحفظ الدين ونمنع ما يناقضه. وكان أشهى شئ عنده كلمة حق يسمعها أو إرشاد إلى سنة يتبعها.
3- البناء الإيماني والتربوي والثقافي:
وفي هذا المجال استقدم العلماء العاملين وأفسح لهم مجال العمل والدعوة، وسعى في بناء المدارس والمساجد وأوقف عليها الأوقاف، وحارب البدع والأضاليل... فانتشر نور الإيمان والعلم بين الرعية. وأحيا سمت احترام العلماء وتوقيرهم فرغم أن الأمراء والقادة لم يكونوا يجرؤون على الجلوس في مجلسه دون أمره وإذنه... فإنه كان إذا دخل العالم الفقيه أو الرجل الصالح قام هو إليه وأجلسه وأقبل عليه مظهراً كل احترام وتوقير. وكان يقول عن العلماء إنهم «هم جند الله وبدعائهم نُنصَر على الأعداء، ولهم في بيت المال حق أضعاف ما أعطيهم فإن رضوا منا ببعض حقهم فلهم المنة علينا. لقد كانت بلاد الشام خالية من العلم وأهله، وفي زمانه صارت مقراً للعلماء والفقهاء والصوفية. وكان يسمع نصيحة العلماء ويجلها ويقول «إن البلخي إذا قال لي: محمود، قامت كل شعرة في جسدي هيبة له ويرقُّ قلبي.
4- الإعمار والبناء الحضاري والاجتماعي:
عرف نور الدين بشخصيته التي تهتم بأحوال المسلمين وتحيي معاني التكافل والتعاون والتضامن بينهم وترفع عنهم معاناتهم وأحوالهم الصعبة... فلقد عمل على كفالة الأيتام وتزويج الأرامل وإغناء الفقراء وبناء المستشفيات والملاجئ ودور الأيتام والأسواق والحمامات والطرق العامة، وتوطين البدو وإقطاعهم الأراضي حتى لا يؤذوا الحجاج. لقد ارتقى بالخدمات التي تقدم للمسلمين فأحبه الشعب وأصبحت صلته بالشعب متينة قوية...، وسرت هذه النفسية البناءة المحبة للخير إلى نفوس رجاله فأصبحوا يتسابقون في خدمة الناس وبناء المدارس والمستشفيات والملاجيء ووسائل الخدمات المختلفة.
5- البناء الاقتصادي:
رتب نور الدين ديوان الزكاة في عهده ونظم جبايتها وتوزيعها وفق الأسس الشرعية، وشجع التجارة بتأمين طرق المواصلات ورفع الضرائب التي تثقل حركة التجارة، وسعى في كل ما يقوي الدولة ويدعم بنيانها الاقتصادي.
6- البناء الجهادي العسكري:
فلقد سعى في إحياء المعاني الجهادية في النفوس وتربية الأمة على معانيها وتكريس عزة المسلمين ومنعتهم وقوتهم، وبذل الجهد في توفير العدة والعتاد واختيار القادة المناسبين، وحماية المدن وبناء الأسوار والحفاظ على أرواح المسلمين، وتميز بحزمه وقوته في ذلك وكان رده عنيفاً جداً على الأعداء إذا انتهكت حرمات المسلمين، ومن ذلك أنه لم يكد يمر على استلامه للحكم شهر واحد حتى هاجم الصليبيون الرها ظانين أن الحاكم الجديد ضعيف ولكن نور الدين هاجم الصليبيين وقتل ثلاثة أرباع جيشهم الذي هربت فلوله وقد عرفت من يكون هذا القائد الجديد، وحصل مرة أن هاجم الصليبيون نور الدين وجزءاً من جيشه على حين غفلة فأقسم نور الدين أن لا يستظل بسقف حتى ينتقم للإسلام وكان انتقامه رهيباً في معركة حارم إذ قتل منهم الآلاف.
حتى الرياضة استفاد منها في مجال الإعداد الجهادي فلقد كانت الحرب تجري في ذلك العصر على الخيول... ولبناء هذه المهارة في التحكم بالخيول وحركتها كان يلعب بمهارة كبيرة لعبة الكرة من فوق الخيول (البولو)!!!
لقد حرص على تعبئة طاقات الأمة للجهاد... وهو في بذله لأسبابه لم ينس دعاء الضعفاء والعجائز والمحتاجين فكان يحسن إليهم ويذكر أنه ربما ينتصر ببركة دعائهم.
بهذا البناء المتكامل والإعداد الجاد المتزن دخل نور الدين مرحلة التغيير الجذري على الساحة السياسية ليحقق أمرين سار بهما في اتجاهين متوازيين هما:
- تحقيق الوحدة الإسلامية وتعبئة قواها في بوتقة واحدة.
- تحطيم القوى الصليبية تدريجياً: بإضعاف هيبتها، وإنهاك قواها، والتحرير التدريجي لأرض المسلمين الواقعة تحت سيطرتها... وذلك بانتظار استكمال الوحدة الإسلامية لتحقيق نصر حاسم ونهائي على هذه القوى الصليبية.
أولاً: جهود الوحدة الإسلامية:
ولقد حرص نور الدين على تحقيقها بقدر كبير من الصبر والحكمة والأناة وحرص شديد على عدم إراقة دماء المسلمين، وقد حرص على استمالة القوى الإسلامية المتعددة في الشمال وشمال العراق وكسب صداقتها، كما كان يكشف بطريقة عاقلة واعية حقيقة أولئك الزعماء والحكام -الذين يقفون حجر عثرة أمام الوحدة الإسلامية- أمام رعيتهم، وكان الناس يقارنون بين جهاده وبين تخاذل حكامهم، وبين إصلاحاته وبين إفساد حكامهم، وبين ولائه لله سبحانه ولرسوله وللمؤمنين وبين ولاء حكامهم لمصالحهم وشهواتهم وللصليبيين!!، فأخذ الناس يتمنون حكمه عليهم.... ولذلك فقد وجد كل ترحيب شعبي عند انضمام أي من بلاد المسلمين إليه.
ضم نور الدين حمص إليه سنة 544هـ -1149م، غير أنه كان يتوق لضم دمشق التي كانت تقف بينه وبين الصليبيين في فلسطين، وكان الحكم في دمشق يسعى بالدرجة الأولى للحفاظ على نفسه فمرة يجاهد الفرنج، ومرة يصانعهم ويهادنهم، ومرة يتحالف معهم إذا خاف من قوة إسلامية ما. ووفق تخطيط متأنٍ يهدف إلى السيطرة على دمشق دون إراقة الدماء، وإلى كسب أهل دمشق إلى صفه، وإلى منع نظام الحكم من الاستعانة بالفرنج عليه إذا قصدهم، استطاع نور الدين أن يفتح دمشق في صفر 549-25 إبريل 1154م، وقد جاء هذا الفتح بعد أن توفي معين الدين أنز 1149م، وبعد أن ضعف الحكم بدمشق، ووقع تحت النفوذ الصليبي الذي فرض الإتاوات على دمشق وكانت رسلهم تدخل البل ويأخذونها منهم.
وتوالت سيطرة نور الدين على مدن وقلاع الشام حتى خضعت معظمها له، غير أنه كان يدرك أن السبيل الفعال لتحرير فلسطين واقتلاع الحكم الصليبي منها لا يكون إلا بالسيطرة على مصر ودخولها ضم الن الجبهة الإسلامية المتحدة، ووضع الصليبيين بين فكي الكماشة. وقد جاءت الفرصة لنور الدين بالسيطرة على مصر عندما استعان أحد المتنافسين على الوزارة واسمه شاور بنور الدين على غريمه ضرغام سنة 559هـ، وعرض على نور الدين ثلث دخل البلاد بعد إقطاعات العساكر ويكون قائده الذي يرسله مقيماً بمصر، ويتصرف بأمر نور الدين. أرسل نورُ الدين أسدَ الدين شيركوه الذي هزم ضرغام وقتله، ولكن شاور غدر بشيركوه واستعان بالفرنج لإخراجه، فجاؤوا وحاصروا شيركوه ورفاقه في بلبيس ثلاثة أشهر حتى جاءتهم أخبار انتصارات نور الدين وملكه (حارم) فعرضوا الصلح والعودة إلى الشام فوافق ولم يكن يعلم ما فعله نور الدين بالشام. واشتد التنافس بين نور الدين وبين الصليبيين على مصر، وخصوصاً أن الدولة الفاطمية كانت في ضعف شديد وفي طور الاحتضار. فأرسل نور الدين أسدَ الدين شيركوه إلى مصر في ألفي فارس في حملة ثانية في ربيع الآخر 562هـ، واستطاع هزيمة الفرنج وجيش مصر بالصعيد، وملك الإسكندرية بمساعدة أهلها وذهب للصعيد فملكه، غير أنه اضطر للعودة إلى دمشق في ذي القعدة بعد أن اشترط على الفرنج ألا يأخذوا ولو قرية واحدة من مصر فوافقوا.
وتمت السيطرة لنور الدين على مصر في الحملة الثالثة التي قادها أيضاً أسد الدين شيركوه في ربيع الأول 564هـ، ففي ذلك الوقت كان الفرنج بسبب تحالف (شاور) معهم قد تمكنوا من البلاد المصرية وأصبح لهم نفوذ كبير، وتسلموا أبواب القاهرة وجعلوا لهم فيها جماعة من شجعانهم وأعيان فرسانهم «وحكموا على المسلمين حكماً جائراً وركبوهم بالأذى العظيم» وطمع الفرنج بملك مصر فجاءت حملة بقيادة ملك بيت المقدس احتلت بلبيس عنوة فقتلت وأسرت ثم حاصرت القاهرة، وأرسل الخليفة العاضد إلى نور الدين يستغيثه وأرسل في الكتب شعور النساء وقال هذه شعور (جمع شَعْر) نسائي من قصري يستغثن بك لتنقذهن من الفرنج. فأرسل نور الدين حملته الثالثة فلما قارب أسد الدين مصر خرج الفرنج خائبين، وانتهت الحملة بسيطرة أسد الدين على مصر وقتل الوزير شاور، وتولى أسد الدين الوزارة مكانه في يناير 1169م في 17 ربيع الآخر 564هـ، غير أن أسد الدين توفي بعد شهرين في 22 جمادى الآخرة فولي صلاح الدين يوسف الأيوبي الوزارة مكانه.
وبأمر من نور الدين أسقط صلاح الدين الخلافة الفاطمية، وتمت الخطبة للخليفة العباسي المستضيء في ثاني جمعة من محرم 567 هـ-10 سبتمبر 1171م «فلم ينتطح في ذلك عنزان»، ومات الخليفة الفاطمي العاضد في 10 محرم دون أن يعلم بذلك. وهكذا، ضمت مصر اسمياً للخلافة العباسية وأصبحت تحت القيادة الفعلية لنور الدين.
وفي 566هـ -1170م ضم نور الدين الموصل والمناطق التي تتبعها إلى حكمه، كما ضم نور الدين اليمن إلى حكمه سنة 569هـ-1173 عندما أذن لصلاح الدين بفتحها فأرسل إليها أخاه توران شاه بن أيوب حيث تمت له السيطرة عليها، وبذلك امتدت الجبهة الإسلامية المتحدة من العراق إلى الشام فمصر واليمن مما أنذر بقرب القضاء على الصليبيين.
ثانياً: تحطيم القوى الصليبية:
خلال فترة حكمه التي امتدت من 1146-1174م لم تتوقف المعارك وحروب الجهاد بين نور الدين والصليبيين، وفي الوقت الذي كان يدعم فيه حكمه ويوحد جهود المسلمين كان يقوم بالاستيلاء التدريجي على الممالك الصليبية ويضعف قوتها يوماً بعد يوم وهو يعد للمعركة الفاصلة معهم، وخلال تلك الفترة استطاع نور الدين في جهاده الإسلامي استرجاع وتحرير حوالي 50 مدينة وقلعة مما كان تحت سيطرة الصليبيين. فمنذ بداية حكمه أحكم السيطرة على منطقة الرها وصفَّى الأملاك التي كانت تتبعها (تل باشر، سميساط، قلعة الروم، دلوك، الراوندان، قورس، مرعش، إعزاز، عينتاب، البيرة...) وذلك خلال الفترة بين 1146 - 1151م. كما استعاد وحرر جميع الأراضي التي كانت تتبع إمارة أنطاكية شرقي نهر العاصي (1147- 1149م) وقتل في أحد معاركها (أنب 29/يوليو/1149) أمير أنطاكية ريموند، وزعيم الباطنية المتعامل معهم ضد المسلمين علي بن وفا. وقام بدور أساسي في تحطيم الحملة الصليبية الثانية (1147-1148) التي شارك فيها ملك فرنسا لويس السابع وإمبراطور ألمانيا كونراد الثالث والتي تعتبر نقطة تحول خطيرة في تاريخ الحروب الصليبية حيث كسرت هيبة الصليبيين ورفعت الروح المعنوية لدى المسلمين.
واستمرت الحروب سجالاً، ووقعت العديد من المعارك الهامة، أدت إلى إضعاف النفوذ الصليبي وضم مناطق جديدة لنور الدين على حساب الصليبيين.. حتى أحكم نور الدين إحاطة مملكة بيت المقدس الصليبية. ولا يتسع المجال لذكر المعارك والوقائع كلها ولكنا نكتفي بالإشارة إلى إحداها وهي التي وقعت عند تل حارم في رمضان 559هـ- 11 أغسطس 1164م.
ففي سنة 558هـ كان نور الدين قد انهزم من الفرنج تحت حصن الأكراد، وهي المعركة التي عرفت بـ «البقيعة»، حيث كبسهم الفرنج فجأة وأكثروا فيهم القتل والأسر، ونجا نور الدين في اللحظة الحاسمة وهرب، ونزل قرب حمص وهناك أقسم «والله لا أستظل بسقف حتى آخذ بثأري وثأر الإسلام» ثم أرسل إلى حلب ودمشق وأحضر الأموال والثياب والخيل والسلاح فأعطى الناس عوض ما أخذ منهم جميعه وعاد العسكر «كأن لم تصبه هزيمة.
ولما رأى أصحاب نور الدين كثرة خروجه للجهاد وإنفاقه عليه قال له بعضهم «إن لك في بلادك إدرارات وصدقات كثيرة على الفقهاء والفقراء والصوفية والقراء فلو استعنت بها في هذا الوقت لكان أصلح، فغضب من ذلك وقال «والله إني لا أرجو النصر إلا بأولئك، فإنّما ترزقون وتنصرون بضعفائكم، كيف أقطع صلات قوم يقاتلون عني وأنا نائم على فراشي بسهام لا تخطئ وأصرفها على من لا يقاتل عني إلا إذا رآني بسهام قد تصيب وقد تخطئ، وهؤلاء القوم لهم نصيب في بيت المال، كيف يحل لي أن أعطيه غيرهم»؟!
وعرض الفرنج الصلح، لكن نور الدين رفض.واجتمع جيشا المسلمين والفرنج بعد أن حشدا حشوداً ضخمة عند حارم. وقبيل القتال انفرد نور الدين بنفسه تحت تل حارم وسجد لله ومرَّغ وجهه وتضرع «يا رب هؤلاء عبيدك وهم أولياؤك، وهؤلاء عبيدك وهم أعداؤك، فانصر أولياءك على أعدائك»... «إيش فضول محمود في الوسط»!!.. وقال «اللهم انصر دينك ولا تنصر محموداً. من محمود الكلب حتى يُنصر»؟!! يحقر نفسه ويتذلل إلى الله سبحانه.
والتحم الفريقان في 11 أغسطس 1164، وانكشفت المعركة الكبرى عن كارثة هائلة حلت بالصليبيين إذ قتل منهم عشرة آلاف وأسر عشرة آلاف أو أكثر، وكان من بين الأسرى أمير أنطاكية وأمير طرابلس وحاكم قيليقية البيزنطي وأسر جميع الأمراء عدا أمير الأرمن. وفي اليوم التالي استولى نور الدين على حارم...، وكان ذلك فتحاً كبيراً.
وفي عام 1173م-569هـ كان نور الدين قد أعد عدته للهجوم النهائي على بيت المقدس وتحرير أرض الإسراء من النفوذ الصليبي حتى إنه قد جهز منبراً جديداً رائعاً للمسجد الأقصى يوضع فيه بعد الانتصار على الصليبيين بإذن الله، وراسل في ذلك عامله على مصر صلاح الدين الذي تلكأ بسبب الظروف الخاصة التي تواجهه في مصر والتي يرى أنها تحتاج إلى صبر وأناة وإعداد. ولم يرض نور الدين بذلك التأخر فقرر الذهاب إلى مصر وترتيب أمورها بنفسه إلا أن المنيَّة عاجلته، فتوفي رحمه الله في 15/مايو/1174م الموافق 11 من شوال 570هـ.
وهكذا انطوت صفحة رائعة من صفحات الجهاد أيام الحروب الصليبية إلا أن الصفحة التي تلتها كانت مشرقة ومؤثرة في مسار التاريخ تلك هي صفحة صلاح الدين الأيوبي.
:بغعبعبعبع: