توجه مسرعاً إلى خزانته وفتحها، ثم أخذ يقلب ملابسه، أأختار هذه لا، بل
هذه، لا هذه أفضل، وأخيراً استقر على ملابس جديدة اشترتها له أمه، فحملها
بلطف ووضعها إلى جانب سريره ليرتديها غداً الجمعة ويذهب بها إلى الصلاة بعد
أن يغتسل.
قفز بجسده الرشيق ذو الاثني عشر ربيعاً إلى سريره، ووضع
رأسه على وسادته، لم تكن الليلة ككل ليلية، ولم يكن يعلم أنها آخر لحظات له
على سطح الأرض، بدأ يفكر في مدرسته وأصدقائه، (كيف أصالح زميلي محمود
وزميلي خالد، هل سنكسب دوري كرة القدم؟، ماذا سأقول لصديقي أحمد في يوم
ميلاده الذي يصادف السبت)، جال بعقله، فطاف مجتمعه البريء، ووجد حلولاً لكل
المشاكل المعقدة في حياته، ثم نام.
أثناء نومه رأي بيارة حول منزله
فيها من البرتقال ما لذ وطاب، فتجول بداخلها واشتهى ثمارها، وعندما مد يده
لقطف برتقالة لم يكن يعلم أن الصواريخ كانت تسابقها، قبض على حبة البرتقال
بيده ليقطعها وإذ بانفجار كبير يقطع حلمه وأمله.
أصيب الطفل "رمضان
الزعلان" وشقيقه بإصابة حرجة واستشهد والدهما في قصف صهيوني غادر على
منزلهما، حمل رمضان إلى المستشفى وهو يسبح في دمه كما كان قبل النوم يسبح
في أحلامه، حمل وهو يمني نفسه ببرتقالة كانت جميلة في نومه، حمل ويده
مفتوحة على قدر حبة البرتقال.
أدخلوه بسرعة إلى غرفة العناية
الفائقة، فوزعت البرابيش والإبر على أنحاء جسده، طبيب عن يمينه وطبيب عن
شماله، وجهاز فوق رأسه لقياس ضربات القلب وآخر لقياس ضغط الدم، لم يكن أحد
يعلم بأن الموت والحياة يتصارعان عليه، الموت يريده ليكون طائراً في جنة رب
السماء، والحياة تطمع في أن تعطيه البرتقالة التي كان يتمناها في حلمه.
لم
يكن "رمضان" وحيداً في المستشفى، بل كانت أسرته كلها حوله، الأب حوله
شهيد، والأخ مصاب بإصابة خطيرة، والأخت مصابة بأنحاء جسدها، والأم
والجيران، ووسط ذلك كانت العيون تسترق النظر من شباك العناية المركزة، وكان
سيف الوقت قاطعاً، والثواني تمر وكأنها ساعات أرخت بثقلها على صدر الأسرة،
والكل يتساءل: "هل جهاز نبضات القلب لا زال يعمل؟".
جاهد القلب
الصغير كثيراً ليبقى على قيد الحياة، ولكن القدر لا يعاند، وإرادة الله فوق
كل إرادة، كنا نرى في "رمضان" طفل أمسك بعنان المستقبل وأخضعه له، كنا
ننتظر شاباً مؤمناً قائداً له رأيه وفعله.
بدأت ضربات القلب تضعف،
وأخذ جهاز القلب يعطي خطاً مستقيماً طويلاً كما كان يسير في حياته ولكن
الفرق أن خط حياته كان قصيراً جداً، هرع الأطباء من حوله وأخذوا ينعشون
قلبه بالضربات الاصطناعية ويحاولون ويحاولون، ولكن الروح فاضت إلى ربها
تشكو ظلم الطفولة.
قتل الطفل "رمضان" بقنابل حقد صهيونية قبل أن
تكون قنابل متفجرة، لقد حقدوا على الطفولة منذ ما قبل "محمد الدرة" و"إيمان
حجو"، فسعوا إلى قتلها مرة أخرى، ولكن المفارقة الكبرى هذه المرة أن
"رمضان" قتل والعالم يحتفل بـ "اليوم العالمي لحقوق الإنسان".
حقوق
إنسان يعترف بها العالم إذا كان الأمر لا يتعلق بفلسطين، فلسطين الوطن
الصغير في أرضه الكبير في جراحه وآلامه، فلسطين الطفلة البريئة التي تقتل
كل يوم ويمر الجميع عنها ويغض طرفه كي لا ينظر إلى عورتها فيؤثم.
هذه
قصة من قصص آلاف غصت بها صفحات تضحية الشعب الفلسطيني على مذبح الحرية،
شعب لو تخلى العالم عن حقوقه سيبقى مدافعاً عنها بصدره العاري، لأنه عود
الجميع أن الكف يناطح المخرز.