أدب الخيال العلمى

الدمام – محمد الفوز

القاص أشرف إحسان فقيه -وحده- في أدب الخيال العلمي يحاول استشراف غد مثير، كنتيجة واقعية لمستقبل تتحفز أيامه عبر جسور معرفية شتى. أصدر ثلاث مجموعات قصصية (صائد الأشباح، حنيناً إلى النجوم، نيف وعشرون حياة) ويسعى بجد إلى بلورة وعي ثقافي لأدب الخيال العلمي الذي يراهن على الوطن العربي، كبيئة خصبة قد تكون حاضنة له أو مهجوسة به، وقد يظل الخيال العلمي غريباً، بحسب تصورات أخرى.
هنا حوار مع الفقيه حول همومه وقصصه.
- الخيال العلمي أهو أدبٌ حقيقي أم مجرد تهويمات علمية في قالبٍ أدبي ؟
الجواب: أشكرك على سؤالك الذي يعبّر بصدق مرير عن موقف كثير من المحسوبين على المؤسسة الثقافية العربية. أنت كنت أكثر وعياً من بعضهم حين اشترطت القالب الأدبي لهذه “التهويمات” المفترضة. سأكون أنا متطرفاً وأصر على أنها تهويمات.. تهويمات أنتجت ثقافة متكاملة من أدب وسينما وفلسفة وعقائد فكرية وحتى لغة منطوقة. هي تهويمات رفدت الحضارة البشرية برؤى لولاها لما كان يومنا على ماهو عليه.
- تقول ذاتَ رأي ” الخيال العلمي هو علمُ آثار المستقبل …” هل تعني أن نصوص الخيال العلمي رهينة لنتائج محتملة على الأرجح ؟!!
الجواب: هذه سمة ثابتة للخيال العلمي لا تحتاج لرجل وامرأتين. لكن علينا أن نعي أن روح (استشراف المستقبل) هذه ليست حكراً على الابتكارات والاكتشافات المادية الباردة. روعة الخيال العلمي تتجلى أيضاً في سعيه لاستشراف مستقبل الذات الإنسانية كذلك مع المجهول الذي يحمله الغد بملامحه المتوقعة. الأعمال في هذا الصدد هي بمثابة قراءات فلسفية لروح ابن الحداثة.. وما بعدها. طبعاً سيقفز الكثيرون معللين بذلك إلى خروج هذا الفن عن سياق الهمّ العربي المغرق في شؤون الخبز والحريّة. هؤلاء يمكن الأخذ بكلامهم.. وتعميمه لإلغاء باقي وجوه الإبداع الفني و الأدبي الأخرى بالمثل!
- ذكرتَ في محاضرةٍ ما (بنادي الشرقية الأدبي) أسبابا متباينة لعدم انتشار أدب الخيال العلمي في الوطن العربي؛ ألا تثق بجدوى العلوم خارج نطاق الأدب ؟
الجواب: أولاً دعني أُشِر إلى أن مسألة عدم الانتشار هذه يساء تفسيرها. فهناك أسماء كثيرة وعناوين أكثر تنتمي لهذا المجال في الوطن العربي. لكن بصمَتها تكاد تكون معدومة على المشهد الثقافي العام. بخصوص الجدوى العلمية. فهذا شأن مختلف Laughing

اً. ثمة انطباع بأن إبداع الخيال العلمي ما هو إلا ورقة بحث علمية إنما صادرة عن دار نشر أدبية. ومع الأسف فبعض الأسماء (الكبيرة) في عالم القصّ الخيالي العلمي العربي ترسخ هذه الفكرة بأعمالها المغرقة في التعقيد وفي الافتقار للحس الجمالي. لعلك تتفق معي على أن (ثقافة) الخيال العلمي؛ من نصوص ورسوم وموسيقى، تعمل في النهاية على تقديم القيمة العلمية للمتلقي بأسلوب أكثر جذباً و (إنسانية) بعيداً عن جمود المعادلة وموات النظرية. ألا نثق بعلم النَفس خارج نطاق الأدب؟ لماذا نقرأ لـ (كافكا) إذاً؟ لماذا يسمح المؤرخون للرواية التاريخية بالظهور؟ على نفس النَول ينسج الخياليون العلميون. لكن العقلية العربية المعاصرة غير متصالحة على ما يبدو مع وقع كلمة (علمي).. أم لعلها العقلية المحض (أدبية) التي تمثل لها الكلمة استرجاعاً لكل مرارات الماضي المدرسي بفصله التعسفي بين كل ماهو علمي وما هو أدبي؟!
- هل سيظل الخيال العلمي يظل أدباً (مستورداً) وغير أصيل في الثقافة العربية؟ ولم لا يقبل القارئ العربي عليه لدرجة القطيعة والتنائي؟
الجواب: لن أستشهد بكتابات (ابن الطفيل) و (القزويني) في هذا المجال لأن هذا الرد قد استُهلك ولأني مللت من الإعاشة على تراث الأولين. من قال أن الرواية فن عربي أصيل؟ المسرح؟ التمثيل؟ لماذا نقرر أن نحرم أنفسنا من هذه القناة الأكثر حداثة وتعولماً للتواصل مع الآخر.. وللتعبير عن ذواتنا أيضاً؟ هل هناك من استقصى عدد قراء الخيال العلمي في العالم العربي ليخرج بهذا الاستنتاج؟ معظم هؤلاء من الشباب قرّاء كتيبات (الجيب) لأن المطروح في السوق موّجه أصلاً لفئتهم. هؤلاء متى ما كبروا لم يجدوا ما يناسب مرحلتهم الجديدة. المشكل إذاً هي في المادة الإبداعية وفي المبدع وليس في القارئ. دعني أذكرك بمقولة أخرى نصها: “نحن شعوب لا تقرأ”.. لماذا يكتب عربيٌ سطراً والحال كذلك؟!
- ما علاقة الخيال العلمي بالأساطير و الخرافة ، و أيهم يفيد الآخر من حيث الدلالات و التآويل ذات القيمة في مضمونها ؟
الجواب: هذه جدلية ثابتة في نقاشاتنا لا أدري لمَ؟ لا يسعك عموماً –كأديب- أن تلتف حول الخرافة والأسطورة. التدوين في ذاته ماهو إلا امتداد أصلي للأسطورة الشفاهية. وتبقى الأسطورة تعليلاً بدائياً للمنجز العلمي إذ يستعصي على العقل. أسطورة زوّار الفضاء الذين بنوا الأهرامات، وقصة قارّة (أتلانتس) الغارقة هي أمثلة في هذا الصدد. لكن ما ينبغي أن نعيه جيداً هو أن الأسطورة المحضة لا تنتمي لعالم الخيال (العلمي). قصص الجان، وخاتم سليمان، وسقوط الدكتاتوريات العربية.. كلها شطحات فنيّة خيالية. لكن تبقى الحقيقة (أو الفرضية) العلمية التي تفرق هذا عن ذاك.
- الأدب عدو الحقيقة في مجمله، فكيف نحلم بخيال ٍ علمي يُناضل من أجل حقيقةٍ مجهولةٍ ، و هل ثمة واقعية علمية مؤجلة خلفَ الكلمات ؟
الجواب: مرة أخرى فالخيال العلمي يختلف عن البحث العلمي في كونه لا يسعى لإثبات حقيقة بعينها. صحيح أن بعض كتاب الخيال العلمي المحترفين يبذلون الكثير في البحث والإعداد لأعمالهم. بعضهم يثبتون قوائم بأهم (المراجع) التي اعتمدوها في سردهم الخيالي. لكن هؤلاء يسعون فقط لأن تكون أعمالهم أكثر (أصالة). على النحو نفسه الذي جلس له (نجيب محفوظ) في المقاهي ليدون سيرة الحارة المصرية. واحدة من التيمات الخالدة في عالم الخيال العلمي تدور حول السؤال: “ماذا لو؟”. الاتكاء على الواقع للانطلاق في سماء الفرض سمة مشتركة في كل ضروب الإبداع الفني. والواقعية العلمية موجودة بطبيعة الحال لكنها غير مُلزِمة. اليوم يتحدثون عن ابتكار يقوم مقام (طاقية الإخفاء). وربما لن يثبت أبداً ما إذا كنا وحدنا في هذا الكون. وكلا الخيالين يكرس نفسه كعلامة فارقة في السرد العلمي.
- الخيال العلمي قريبٌ من الأدب بمقدار ابتعاد الأدباء عنه إلى حدِّ كبير ؛ ماتعليقك ؟
الجواب: أعتقد أن الجملة مفيدة لحد بعيد ومتماشية مع حال الأدب العربي بالذات.. ربما بسبب تعريف (الأدب) عند فئة كبيرة من المشتغلين به. الأدب العربي الراهن يعيش فترة قلقة ويحاول إعادة تكوين ذاته في ضوء أسئلة كبرى: هل ماتت القصيدة؟ هل الرواية هي ديوان العرب الجديد؟ أثمة حداثة عربية؟ وهي أسئلة متشابكة مع موروث فكري يلامس حد المقدس. وسط هذا النزاع بين الماضوية والتجديد يقف الخيال العلمي العربي منذ ستينات القرن الماضي في انتظار من يأخذ بيده.
- لمَ لا تتواطأ المؤسسات الثقافية مع مراكز العلوم في التحريض على أدب الخيال العلمي؟
الجواب: سأفترض أنك تعني بـ “مراكز العلوم” الجامعات ومعاهد الأبحاث. لأني لا أعرف كيانات أخرى عبر الامتداد العربي تستحق هذا الوصف. وسأرفض Laughing

اً إشراك هذه في مشروعنا الإبداعي لسببين: هي أولاً مهمومة بمشاكلها الذاتية وإجادة أدوارها الأصلية. وثانياً لأن الإبداع الخيالي العلمي يظل فناً في النهاية.. إنما ذا صبغة علمية. لغة الخيال العلمي العربي حالياً تعاني من الجفاف والتقعر المصطلحي. ما يحرمها الانتشار الشعبي ويحرمها بركات سدنة الأدب. ودخول “مراكز العلوم” هذه على الخط سيزيد من الإغراق في التفصيل التقني على حساب الجمالية الفنية المفتقدة أصلاً. هذا مع كلٍ لا ينفي حاجتنا لمشروع معرفي متكامل يعيد بعث القيمة العلمية المفقودة في منظومتنا الفكرية. لكن ثمة مبادرة مُتوقعة من المؤسسة السياسية، لا العلمية ولا الأدبية. بقي دور المؤسسات الثقافية في اللعبة: وزارات الثقافة، دُور النشر، المكتبات، هيئات الكتب، المترجمون والنقّاد. هؤلاء يا سيدي هم الخصم والحكم. وإن كان الخيال العلمي العربي يعيش أزمة فبهم لسببين مرة أخرى: أولاً لأن القائمين على المؤسسة الثقافية في معظمهم غير محيطون بأبجديات هذه الثقافة العصرية وبالتالي فهم يعادونها. وثانياً لأن هذه المؤسسات تدار بعقليات الشركات الربحية. هي غير مستعدة للمغامرة باستكشاف ملامح أسواق جديدة احتمال الخسارة فيها وارد. لذا فهي تركن لتجاربها القديمة المكرورة. ثم تزعم أن القرار الأخير يمليه ذوق القارئ الكريم!