عذراً أيها الأبناء ! وُلد أبي منذ زمن بعيد , عاش حياته بطولها وعرضها وبما عرضت عليه الدنيا من همومها ومفاتنها . وُلدت أنا وعشت حياتي بطولها وعرضها وبما عرضت الدنيا عليّ من همومها ومفاتنها .
وُلدتَ أنت أيها الابن فعش حياتك بطولها وعرضها وبما تعرضه عليك الدنيا من همومها ومفاتنها .
هل بقِيَت الدنيا بنفس العرض ونفس الطول ؟ هل بَقِيَت نفس المعروضات من الهموم والمفاتن ؟
السؤال المهم , كم استطعتُ أن أسير في عرض الدنيا وكم قطعتُ من طولها , كم هدمت مني همومها وكم أغرتني مفاتنها ؟
أسئلة صعبة شائكة , الكثير من المعروضات بقي على حاله والكثير تغيّر وتبدّل , الجميع عاش المرحلة الحرجة , مرحلة المراهقة , منذ الأزل وإلى الأبد ولكن الهموم تغيّرت والمفاتن تبدّلت , فالجسم يأخذ بالنمو واصلا للنضوج والتكامل , والمشاعر والأحاسيس تتدفق كسيل عارم , والإبداع قائم منذ أن خلق الله سبحانه الدنيا وحتى يرثها , ولكن الهموم تزداد وتتراكم , فمن تعليم لبناء بيت وزواج ووسائل الراحة الكثيرة التي تُتعب الناس للحصول عليها , لمفاتن الدنيا التي لا تعد ولا تحصى هذه الأيام , القليلة لما ستكشفه الأيام للأجيال القادمة .
عاش الجيل الأول كما عاش , ومرّ بالمرحلة وتعامل معها كما تعامل , ولكن هل يستطيع أن يتقبّل مروري أنا بهذه المرحلة وأن أتعامل معها كما أريد أم سينقل إلي نفس الوصايا التي حصل عليها من والديه متغاضيا عن فارق التطور وعن فارق هموم الدنيا ومفاتنها ؟! يعيش الأبناء ويمرّون بنفس المرحلة , فهل نستطيع أن نتقبّل مرورهم بها وتعاملهم معها كما يريدون , أم هل سننقل إليهم نصائح أهلنا ضاربين عرض الحائط بفوارق التطوّر وفوارق هموم الدنيا ومفاتنها . هل يدرس كل جيل تطوّرات مرحلته وتغيّرات هموم الدنيا ومفاتنها ليفهموها ليستطيعوا إرشاد أبنائهم بنصائح تتلاءم مع هموم الدنيا ومفاتنها وتتناغم مع تطوّرات العصر . هل أستطيع كأب أن أكون رحيب الصدر وأتقبّل مصارحة ابنتي لي عمّا تكنّه من مشاعر وعمّا يجول بخاطرها ؟ هل أستطيع أن أجعل ابنتي لا تتردد بمصارحتي بما يختلج في صدرها . الكثير من الأسئلة لست أرى نهايتها ولكن الإجابة على أحدها يرشد باتجاه الجواب على الباقي .
مسؤوليتي أن أدرس نفسي وأتعرف على كنهها ومكنوناتها وأن أتحمّل مسؤوليتي بمفهومها العام الشامل , وأن أدرس المرحلة وأتعرّف على خباياها ,الفسيولوجية والنفسية وأن أفهمها وأن أدرس تبعاتها ومتعلقاتها وأن أعيها , وأن أدرس حالة ابني أو ابنتي خاصة , وأن أفهمها وأتقبلها حتى أستطيع أن أمزج بين كل هذه النتائج والحصول على منتوج واعٍ مسؤول مدرك سلس طيّع حتى تستطيع ابنتي أن تشعر وتحسّ بأن ما تمرّ به طبيعي من صنعة الله سبحانه وبأني سندا لها في هذه المرحلة وليس شرطيا يتربّص بها , لأستطيع أن اجعل ابنتي تفهم المرحلة وتعقيداتها وانحناءاتها لجعلها صائبة الحكم قدر الإمكان على ظواهر ومشكلات هذه المرحلة لأستطيع أن أجعل ابنتي تكلمني كتربٍ وليس كأبٍ صاحب السلطة , لأستطيع أن أنصح وأرشد ابنتي الطريق السليم القويم الآمن .
هل فعلا نحن كذلك ؟!!!
ولكم أيها الجيل الجديد ليس كل ما تعتقدون عن ذويكم ومفاهيمهم صحيح , وليس كل ما تفكرون به أنتم , أبناء هذه المرحلة فاسد , وليس كل ما تشعرون به حقيقي دائم .