لم يشغل أحد من الرجال الذين عرفتهم, قبل هذا الضرير, نفسه او فكره بما في داخلي, مثل أي امرأة, بأن أصبح أماً , ولم يبد احدهم استعدادا ,ولو كاذبا, لأن ينصت إليَّ لأتخفف بين يديه من أثقال تسحق سنواتي سحقا وتبددها تبديدا ..
ليس الرجال أكثر من كذابين في أحسن تصوير, ترينهم يسيرون على رجلين عندما يتحدثون ويتكلمون عن الحرية وعن كرامة المرأة فتأنسين لحديثهم وتحترمين عقولهم , حتى إذا أسكَرِك الأمان انقلبوا إلى كائنات تمشي على أربع , تهاجمك بشراسة لا تجفل ولا تهاب ,كأنما هم بهائم في مواسم النزاء, لا تكفّ أو تتراجع حتى تبول قذارتها تين فخذيك .
- رائده .. أنتِ هنا؟
- بلى أنا جالسة أمامك
- كنتِ تحدّثين نفسِك ؟
- بل كنت أُدخِل الماضي في لحظة تأمل
- أغمضتِ عينيكِ إذن؟
- ليتني أمتلك شجاعة "أوديب" فأفقأهما بيديّ
- ياااااه... إلى هذا الحدّ أنت خاطئة ؟!
- أحمد .. قد قلت لي من قبل أن الحب ليس خطيئة نختلسها في الصمت ؟
- ولن أتردد في إعلان ذلك أمام الناس جميعا
- لكنك قد تغير رأيك إذا علمت بأنني قد مارست في الصمت علاقات جنسية عديدة ......... وفي كل مرة كنت أظنه حبا وأبرره بحقي في الحرية
....... وضع كفه على جبينه وأطرق صامتا ووضعت كفّي على صدري كزانية شرقية تحاول أن تدرأ عن قلبها طعنات أقرب الناس إليها ...... مرّت لحظة كعامٍ .. ثم تمالكت نفسي وسألته
- ألست خاطئة جدا؟ ... فرَكَ جبينه ثم رفع رأسه مبتسما وقال
- بل أنتِ واهمة جدا
- تقول واهمة؟؟!!!!!!
-
ا كالذي تفتك السيجارة بعافيته لكن تشبع فيه وهما بأنه حرّ يتمتع بحياته ...
اجتاحتني نوبة من الحب الجارف أفقدت سنواتي الاربعين وقارها واتزانها فكدت أضمه إلى صدري وأشبعه تقبيلا لولا أن خشيت من ظنه بأنني مازلت واهمة .. فالخوف على الحب , أحيانا , أقوى من الحب نفسه , لهذا اكتفيت بكلمة "أحبك" أرددها أكثر من مرة .. وفي كل مرة أقولها أشعر بحبي يفيض ,كالمطر المنهمر, يغسل نفسي من بقايا القلق والأرق الذي لوثها وعلق بها سنوات عديدة ,أو كالثلج والبَرَد يطهر فكري من ضلالات أوهمتني ,كبغي في زمن العولمة, ان الجنس يفتح الأبواب المغلقة في الشرق والغرب على السواء ,كما أوهمتني أن الثروة قيمة عليا تستحق أن يهان من أجلها الجسد .. نعم اكتفيت بكلمة .. أُحبك..
- أُحبك , أحبك,أحبك ..
- حسبك يارائدة.. فحبا واحدا يكفي يا ....
لكنه لم ينطقها .. بل ضحك ضحكة خافتة ثم شبك كفيه وضمهما إلى صدره ثم رفع وجهه نحو السماء وقال كأنما يخاطب الله
" لست كريما في الحب مثلك".. ورمشت عيناه بتتابع ظننت أنهما تستقبلان الضوء بعد العتمة الطويلة .. ثم أغمضهما وأطرق إلى الأرض وأكمل قائلا
"ياحبيبتي"
- حبيبتك ؟! تقولها برغم ما عرفت عني ؟!!
- أنا لم أعرف عنك شيئا .. بل عرفت منك
- وما الفرق؟!
- كالفرق بين الخوف والصدق
- وأيهما أنا؟ .....
- أعطني يديكِ ... مددتهما إليه .. ضمهما بين يديه وضغط عليهما ثم أردف " أنت مركَّبة ياحبيبني .. صادقة وفيكِ خوف .. فكيف أصنّفكِ وماذا أسمّيكِ .. سأسمّيك حبيبتي " الخادقة" ..." ثم رفع يديّ إلى مستوى جبينه كراهب بوذيّ برهة ثم أنزلهما يضمهما إلى صدره .
- عفوت عني إذن ؟! .. سألته .. ترك يدي ورجع بجذعه إلى الوراء يسنده إلى ظهر المقعد وقال ..
- لِمَ أعفُ عنك او أدينك .. فأنا لست قاضيا .
.................................................. .........
من يكون هذا الضرير الذي استدعاني بغير وسيط إلى اغوار نفسي وأوقفني عارية في ميدان عريض بحجم عمري .. لكنه ضيّق كزنزانة بلا سقف , أطل منها على ذاكرة مثقلة ,كبطن حبلى , تلد حملها توائم عديدة من الضلالات كل ضلالة جمرة وأنا محاصرة بينها , كالذي تحيط به خطيئته, ثم جاء كهدهد يطفئ النار وكثائر يهدم الزنزانة وكساحرٍ يوقظني من مشهد كالكابوس بكلمة واحدة .. أنتِ واهمه
.................................................. ..........
لكني لم أكن واهمة عندما رأيته اول مرة وهو يتحدث في ندوة حول الحرية حضرتها بصحبة بعض الصديقات حيث لفتت ذهني وشدته بعض أفكاره التي سجّلتها عندما قال ...
" إن حريتنا ,نحن البشر, حتى في أوج تجاوزاتها وتهويماتها وتجلياتها الفلسفية , تظل مرتبطة بجذور جسدية وتظل أيضا , حتى في أكثر أشكالها مثالية, تتغذى على تلك الجذور .. فنحن , طوال القرون الماضية وبرغم كل التطور الذي قطعه أو أنجزه الناس عبر هذا المدى البعيد ,لم نفعل ,على صعيد الوعي, غير أن قلبنا المعادلة القديمة حيث أصبح الجسد اليوم هو سيّد الأرض بعدأن كان عبدا لها .. وكل ما فعلناه هو أننا قد أسقطنا قيمة كنا نظنها للأرض .. فقد كانت الأرض, بشروطها الموسمية, تتحكم في احتياجاتنا العضوية الجسدية بينما صرنا نحن اليوم الذين نتحكم بشروطها لكن لتمدنا بنفس تلك الاحتياجات الجسدية .. كان وعينا غائبا تحت سيادة الأرض .. وما زال هذا الوعي غائبا أيضا تحت سيادة الجسد هذه المرة ..
ولهذا صار علينا ,إذا أردنا أن نعيش أحرارا ,أن نتخطّى أو نحطّم هذه الحلقة من الغياب المتصل .. أن نفك وعينا من قبضة الأسرَين الأرض والجسد .. وننطلق ,لتأكيد سيادة الإنسان , ضمن معادلة جديدة تكفل سيادة الفكر والحرية ...........