عندما ترتفع قدمك قليلا عن ملامسة الأرض وأنت تجلس في مكان عالٍ أخضر يملك من النسمات ما تستطيع معه كل الأحلام الكامنة في الصدر أن تطير، في هذه اللحظة ستتلاحق داخلك الأفكار وستشعر أن الإجابات قريبة، خاصة عندما يتعلق الأمر بهذه الأسئلة اللصيقة عن ثنائية الشهوة والوجدان.. ثنائية لا تعرف إن كانت تتضاد أم تتكامل؟ وهل يمكن أن تتجبر إحداهما فتنفي الأخرى؟ وما مصير الإنسان الذي تدور داخله المعركة عند هذا الحال؟ هذا على ما أعتقد هو ما دار في خاطر الصحفية المصرية سهام ذهني وهي تكتب السطور الأولى في كتابها "عن الشهوة والوجدان" فوق أحد جبال لبنان، هالها وهي تلاصق هذه النسمات الراقية في الأعالي هذا الجنون الذي يدور على الأرض وهي على مشارف ألفية ثالثة، فمن ناحية ينشغل العالم بأشياء زرقاء لا علاقة لها بما يحمله اللون من نبل، ولكنه هوس تعلق بحبة زرقاء هي دواء الفياجرا، وفستان أزرق هو دليل الفضيحة والإثارة في قضية كلينتون- مونيكا، وفي وسط هذا الصخب تخرج كلمة جديدة تستطيع أن تجعل العالم يصمت ولو لحظة قبل أن يعود إلى حلقة مجنونة وهي "استشهاد". نزلت "سهام" من أعلى الجبل وقررت من واقعها الصحفي أن تختار شخصيات مختلفة في غزارتها تفتح معهم مداخل مختلفة حول هذه المتلازمة وجمعتهم مؤخرا في كتاب حمل نفس الاسم عن "الشهوة والوجدان"، وأنا بين سطوره بالأيام الماضية نسيت أن هناك صحفية وكاسيت وضيفا، وشعرت أني أجلس خفية أثناء إجراء هذه الحوارات وأن نفسي تتكشف أمامي دون إرادة مني، ولو أن أي أحد غيري قرأ سيفعل، حيث كلنا في حاجة لأن نأخذ فاصلا، وأن نكتب في المساحات البيضاء الفاصلة بين السطور عن خريطة الشهوة داخلنا وكذا تلابيب الوجدان، فحاول معي التجربة.. تعمقت الأسئلة وكان بالإجابات نهم نحو الصراحة والإبحار؛ ما ساعدني أن أحدد عدة محاور وأسطر تحتها نتائج واستخلاصات، فما بين الشهوة والجدان تنتشر جزر لها من الأسماء: الحب.. الدين.. الفن.. الموت.. الستر.. الجمال. الدين.. يتحدى الملل تساءلت الكاتبة، هل الدين هو من يبعد الإنسان عن الشهوة؟ أم حاجته أيضا للنواحي الوجدانية؟ وبنفس الوقت كيف يكون هناك كل هذا التحريم وتنتشر المعاصي؟ ونبدأ مع تفسير للدكتور "عبد الوهاب المسيري" من عبثية ما يردده الغرب عن هوس الشرق بالجنس نتيجة الكبت في حين أن ما رآه هناك عكس ذلك ا. وقال: كنت أفكر أن مجرد ممارسة الجنس يعني تحقق الإشباع ووضع ملف الجنس في حجمه الطبيعي، لكن ما يحدث هناك تصعيد مستمر، في حين أن ما يحدث عندنا ليس قمعا ولكن "إرجاء"؛ أن يقوم الإنسان بتأجيل اللذة تحت مسمى معين باسم الدين أو السعادة القادمة، على عكس الغرب الذي تضخم الجنس داخله فلم يعد مجرد إشباع وإنما قضية افتقاد معنى أكبر، كما كانت الخمر لأبي نواس. عندما انتهيت من قراءة حوار الكاتبة مع المفكر الإسلامي د. رشدي فكار لازمتني آية: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، خاصة عندما استخدم هذا التشبيه العجيب، حيث قال: الغرب أغرق العالم بالشهوة حتى تثاءب منها. مما يجعل كلمة "الملل" التي يرددها الجميع في بساطة مؤشرا على الدمار الذي يتسرب للنفوس من شدة الانغماس في الشهوة، وربطت الكاتبة بين رؤيته وكلمة جميلة جاءت في رواية للأديب فتحي غانم فتحدث عن "تخمة اللذة". الحب.. هات من الآخر رأت الكاتبة أن أكثر من يستطيع سحبنا إلى بساط الحب هي الكاتبة "سناء البيسي" ولقد أصابت فتسمع ضحكتها الصافية التي تفضي بها كل كتاباتها وهي تجاوب عن الفرق بين الحب قبل وبعد الفياجرا بالقول: أصبح شعار الحب هو "هات من الآخر" حيث انعدمت المقدمات. ورأت أن المستور قد انكشف وأن الشاب لم يعد يتردد قبل أن يقول للفتاة "أحبك". قال د. المسيري: يكون الحب عندما نفهم معنى التضحية والوفاء حين تستبعد كل نساء الأرض من أجل واحدة طوال العمر. أما د. مصطفى محمود فأجاب أن الحب الذي أساسه الوجدان والتعلق بالمبادئ وبنفس الوقت يشبع الشهوة وفي متعة غير آثمة لا تثقل صاحبها، هو هذا الحب الذي يجعل سيدة صغيرة بعد فوات العمر تجلس إلى جوار رجل، وقد أصبح كبيرا ومريضا تنظر له ولا يخطر ببالها أبدا الرحيل من جانبه تلبية لمتطلبات جمالها. النفس والبطولة ترى متى تتوارى الشهوة ويصبح الوجدان النضالي هو المحرك؟ هل نيران الاحتلال والظلم والقهر تحرر الإنسان من شهوة جسده وتجعله في حالة بطولة دائمة أم هذا تصوير مجازي ظالم؟ لمست الكاتبة هذا المحور بقوة وخرجت بالكثير، فنقرأ وصف الشاعر الفلسطيني "مريد برغوثي" عن الانتفاضة التي حولت الجسد من مكمن للشهوات لسلاح مقاومة، سألته عن نسبة الإنجاب في الأسرة الفلسطينية، وهل أصبحت الشهوة الطبيعية في الزواج هي الأخرى مجالا لمقاومة من خلال زيادة السكان؟ رد بأنه ليس كذلك بالضبط، لكن ما يحدث لا يقل روعة، وقال نتحدث عن أم تعلم أولادها أن الموت ليس نهاية المطاف، فكيف يمكن أن يعلو الجسد بعد هذا، وقال: هذا الوجدان الفلسطيني يعطي درسًا للحياة بأن البطولة تتحقق حين نتمسك بالأمل في ظل تاريخ مليء بالحسرات والخسائر. ومن "مريد" إلى "د. سليم العوا" تساءلت الكاتبة لماذا يتحمس أولادنا في سن المراهقة لفكرة الاستشهاد بهذا الشكل برغم كل ما يحيط بهم؟ وكان الرد: يسعدني أن يكون لي ابن شهيد. الفن.. نار الجمود أم الشهوة؟ ونصل للفن هذه الواحة الخضراء التي يتم تحميلها كل ما لا تستطيعه فتصاب مرة بالجمود والازدراء دون وجه حق، ومرة بجعله عنوانا للابتذال والمجون، واختارت الكاتبة لهذا الحديث المفكر الإسلامي "محمد عمارة"، وقد أفاض وكأنه وجد منبرًا يعظ الناس منه أن إياكم والجمود؛ لأنه يؤدي إلى الفراغ، وعندما لا يجد الوجدان ما يزكيه من فنون أخلاقية رفيعة يصبح الطريق مفتوحا أمام خطابات الابتذال والعهر. قال: إن من يحرمون كل شيء يدفعون بالمجتمع نحو كارثة وإن اللهو كالتجارة ليس حراما لأن القلوب إذا كلت عميت. ذكرته الكاتبة بمواقف لسيد الخلق لم يعترض فيه على اللهو، فذكر أكثر وأكثر، وقال: الإنسان إذا لم يملؤه ماء الحكمة ملأه هواء الجهل والعصيان. الجمال.. اشتر نفسك أما الطبيب والفنان "طارق علي حسن" فقد دخل مع محاورته إلى مناطق شائكة ولكنه أوضحها بأمانة وصاغتها هي بكلمات يحتاج كل منا إلى سماعها. سألته إن كان استهلاك الفياجرا بهذا الكم يعكس درجة كبيرة من العجز أم معدل غير عادي من النهم وكذا الأمر بالنسبة لمراكز التجميل؟ رد قائلا: ما يحدث الآن هو جنون وما يفعله الرجال والنساء بأنفسهم أشبه بما تقوم به الحكومات حين تسحب مالا من البنوك دون غطاء ومن الأفضل أن يشتري الإنسان نفسه. أعطى في حواره وصفة الأمان في علاقة الرجل والمرأة التي تجتذبها موجات المد والجزر بين شواطئ الشهوة والوجدان، وكم كانت وصفة رقيقة، فقال: عندما يكون الإنسان أكثر حبا وأقل خجلا تكون نسبة الإشباع أعلى. قال: أتحدث عن علاقة بين رجل مصدر سطوته هو قوة شخصيته لا فحولته، وكذا امرأة تتحلى بهدوء النفس قبل وبعد الجمال مما يجعل كل طرف يقبل معطيات الآخر، ويتعامل معها دون خجل للوصول للإشباع الكامل، وإنه من النادر أن يحتاج الإنسان لتغييرات عضوية سواء الذكرية أو الأنثوية ولكن يحتاج مزيدا من الحب. أخذنا حديث الجمال للحب مرة أخرى، وكأنها الكلمة المفتاح فيما يجمع الأزواج في حين يبقى حب الله واحترام فطرته وحب الحياة وعشق الحقوق وعدم التنازل عنها هو الباب المفتوح دائما حتى يجمع الإنسان بين النقيضين دون أن يخسر أي منهما أو يسمح لهما بإفساده، ولقد استخدمت الكاتبة تعبيرا دالا يمكن أن ننهي به حديثنا، قالت: "كل ما حاولت هو الحديث بوقار عن قضية تبدو غير وقورة".. فانظروا بماذا خرجتم من هذه الرحلة؟ |